مملكة سبأ


مملكة سبأ


مملكة سبأ (1200 ق.م-275 م) (خط المسند:Himjar sin.PNGHimjar ba.PNGHimjar alif.PNG) هي مملكة يمنية قديمة وهناك إختلاف حول مرحلة نشوئها إلا أنها ظهرت بوضوح في القرن العاشر ـ التاسع قبل الميلاد[1] كانت أقوى الإتحادات القبلية في اليمن القديم ولم يرتبط إسم اليمن بأي مملكة بقدرها. إستطاعت المملكة تكوين "فيدرالية" قبلية في البلاد ضمت مملكة حضرموت ومملكة قتبان ومملكة معين وكل القبائل التابعة لهذه الممالك وأسسوا عددا من المستعمرات قرب فلسطين والعراق كما تشير نصوص آشورية وبعض الوارد في العهد القديم يعطي لمحة عن وجود سبئي قديم في تلك المناطق [2] [3] [4] الكثير من تاريخ المملكة السياسي غامض ونجح المستشرقين في إعادة كتابة تاريخ هذه المملكة وتنقيته من الخرافة والوضع الذي شابه من المؤرخين المسلمين. شهدت المملكة فترات صعود وهبوط متعددة وتعد واحدة من أطول الممالك عمراً وإستقلالية عبر التاريخ إلا أنها ضعفت أواخر القرن الثاني قبل الميلاد تقريباً بسبب إكتشاف الرومان للرياح الموسمية وزوال الإحتكار والهيمنة اليمنية على التجارة البحرية على البحر الأحمر[5] ولكنها كانت مملكة زراعية كذلك كباقي ممالك اليمن فهبوط نشاطهم التجاري البحري دفع زعماء القبائل لإستبدال النظام "الفيدرالي" القائم بحكم شمولي أوحد كانت الغلبة فيه لمملكة حمير وأحلافهم من كندة ومذحج في القرن الثالث الميلادي بعد حروب ونزاعات طويلة ضد قبيلة همدان ومملكة حضرموت [6]

وسبأ إسم قبيلة من القبائل القديمة أما معناها فقد أوردت نظريات كثيرة معظمها بطابع قصصي خيالي بلا دليل. ضمت هذه القبيلة عشائر عديدة إما بالحلف أو القوة وهي في عرف النسابة وأهل الأخبار جد من الأجداد القدامى التي يعود إليهم أصول كثير من القبائل العربية بل جل القبائل اليمانية تعود بسلسلة نسبها إلى سبأ ومن ثم إلى شخصية يعرب بن قحطان والأدلة الآثرية بشأن ذلك لم تكتشف بعد فسرد النسابة تأثر بطريقة اليهود في تعقب الأنساب وشبه تأليه الشخصيات القديمة بل كانت التوراة مصدرهم الذي إستقوا منه تلك الأسماء بالإضافة لزيادات من عندهم وتعريب لأسماء تبدو في ظاهرها عبرية [7] فهناك قبائل سبئية بلا شك بالإضافة لقبائل حضرمية وقتبانية ومعينية لم تكن جزءا من المملكة السبئية. ومرد ذلك أن النسابة وأهل الأخبار لم يعرفوا شيئا يذكر عن مملكة معين ومملكة قتبان فقد إنتهى ذكر هذه الممالك ودخلت في مملكة حمير قبل الإسلام بعدة قرون.

كان السبئيين وثنيين وإلههم القومي كان إل مقه يليه آلهة القبائل الخاصة فلكل قبيلة إله يعقب الإله القومي كانوا آباءاً للقبائل وفق معتقداتهم القديمة[8] بالإضافة لتقديسهم للإله عثتر أكبر الآلهة والتي إجتمعت ممالك اليمن الأربع وقبائلها على تقديسه[9] ذكرت سبأ في كل الكتب المقدسة لأتباع الأديان الإبراهيمية وأشهر القصص هي قصة ملكة سبأ وزيارتها للملك اليهودي الأشهر سليمان.
أشتهرت المملكة بسدودها وأشهرها سد مأرب القديم وسيطرتهم على الطريق التجارية أهمها طريق البخور وطريق اللبان ونقلوا نظام كتابتهم القديم المعروف بخط المسند إلى المواقع التي سيطروا عليها في شمال الجزيرة العربية، وشمال إثيوبيا وكان لهم نظام كتابة آخر عرف بإسم الزبور

الأصول والمصادر

هناك عدة نظريات بشأن أصول السبئيين القديمة الشائع منها أنهم قدموا من جنوب فلسطين خلال نهاية العصر البرونزي في العصر الحديدي (قرابة 1500-1300 ق.م) ولهم عدة نظريات بهذا الشأن أغلبها لغوي وتشابه المعتقدات الدينية والأسماء كذلك [12] فالأسماء العربية الجنوبية كانت من قبيل "شرحبيل" و"شراحيل" و"كربئيل" و"يصدقئيل" وغيرها والملاحظ فيها وجود الإله إيل بكثرة وحدث نفس الخلط عند كتبة اليهود وتخبطهم في ذكر تسلسل نسب السبئيين فزعموا أنهم من أبناء الشخصية التوراتية إبراهيم من زوجتهقطورة التي تزوجها عقب وفاة سارة والتي أنجبت له عددا من الأولاد منهم مدين وقيشان.مدين خلف ديدان و قيشان الذي خلف سبأ. وكلمة "يقشان" بالعبرية تعني "مهاجم" أو " صعب" وشي من هذا القبيل [13] وأمر أبنائهم بإستعمار الأرض بعيدا عن إبنه إسحق المُختار [14] وكلمة "قِطورة" (عبرية:קְטוּרָה) بالعبرية مشتقة من الفعل "قطوريث" وتعني "يبخِّر" فمعنى إسمها له علاقة بالبخور [15] وقد كانت سبأ محتكرة لتجارة تلك النبتة وكل الممالك الذين ذكروا كإخوة له ومن أبناء قطورة هذه كانوا منخرطين بشكل أو بآخر بتجارة البخور واللبان في العالم القديم ثم ذكروا في موضع أن آخر أن "شبا" شقيق حضرموت وأنهم من أبناء يقطان بن عابر وهذا الإدعاء دون غيره هو ماتمسك به النسابة العرب بعد الإسلام لسبب أو لآخر، وأخيرا كوش وهي كلها دلائل على إنتشار السبئيين في عدة مواضع على شكل مستعمرات.
لا يمكن التأكد من أي هذه الإدعاءات لسبب عدم وقوف العلماء على فترة كتابة هذه القصص فهي لم تُكتب في الفترة المفترض أن إبراهيم عاش فيها[16] [ملاحظة 1] وهو أمر مفروغ منه عند علماء الآثار بالإضافة للطبيعة الأسطورية لهذه الكتابات [17] وعلى أساس هذه النصوص بنى علماء المدرسة الألمانية القديمة فرضياتهم بشأن السبئيين وأصولهم وللأسف فإن الأبحاث الآثارية الحديثة في اليمن تتعرض لمضايقات وعرقلة بسبب الإضطرابات [18] [19] والإختلاف هو في الأصول القديمة وليس الموقع فكل المواضع المذكورة شهدت تواجدا بالفعل ولكنه ليس كقوة تواجدهم في اليمن [ملاحظة 2] وهي نظرة مناقضة لأبحاث علماء التطور فيعتقد عدد من العلماء أن هومو سابيان (الإنسان العاقل) خرج منأفريقيا موطن البشر الأول ومنها عبر السواحل الجنوبية لشبه الجزيرة العربية إلى الهند وإندونيسيا وأستراليا [20] ويعتقد الباحثين أن كل البشر الغير أفارقة اليوم ينحدرون من هولاءالهومو سابيان الذين خرجوا من أفريقيا ومنها إلى اليمن وعمان وإلى باقي مناطق العالم وهناك توجه أخر أنهم خرجوا عبر سيناء [21] في نفس الوقت فإن هذه الأبحاث تشير إلى تاريخ البشر قبل 100,000 سنة ولا تعطي تاريخا لشعب سبأ نفسه الذي يعود بتاريخه إلى القرن الثاني عشر ق.م أي مايزيد على ثلاثة آلاف سنة بقليل ولكن هذه الأبحاث تشير أن اليمن كانت مأهولة منذ أقدم العصور فلا ينبغي الإكتفاء بالجانب اللغوي للسبئيين وعلاقته بغيرهم من الشعوب "السامية" كدليل على نزوحهم إلى الجنوب والمسألة موضع نقاش وجدال بين المختصين [22]
ولكن كتابات اليهود تفيد في إثبات وجود سبئي قرب مناطق اليهود مما حدا بهم بإضافتهم كأبناء عمومة لهم. وتفيد تلك الكتابات في تكوين لمحة عن طبيعة وجودهم هناك فقد تم ذكرهم كأعراب يغيرون على المساكن والمدن في موضع ولا شك أنهم كانوا في أقصى جنوب فلسطين ، وكشعب ثري يتاجر بالذهب والفضة والأحجار الكريمة حتى أن ملكتهم أتت لزيارة ملك اليهود سليمان في موضع آخر والدلائل الآثرية لا تبثت أي من القصص ولكنها تفيد بشي يسير عن الوارد فيها [23]وقد سيطر السبئيون وأنشئوا عدة مستعمرات على طول الحجاز حتى حدود فلسطين أما كيفية حدوث ذلك وطبيعته ومداه، فلا زالت معارف الباحثين بشأنه ضئيلة ولكن الآثار إلى جانب الكتابات الكلاسيكية تفيد أن الوارد في كتب التراث العربية بشأن قبائل كثيرة خارج اليمن تدعي أن لها أصولا في سبأ لم يأت من فراغ وإن كانت نظرياتهم ساذجة وسطحية ومتعلقة بأسطورة إنهيار سد مأربفوجودهم كان جزءا من سياسة توسع سبئية للسيطرة على الطرق التجارية [24] [25] فقد ذكر اليونانيين أن السبئيين كانوا يكونون مستعمرات بداية عاصمتهم "ماريبا" (مأرب) حتىالعقبة، كانت المسافة قرابة السبعين يوماً وهدف المستعمرات (القبائل) تأمين الطرق وتخفيف مشقة السفر[26]
مصادر التاريخ اليمني القديم بشكل عام هي كتابات خط المسند فهي أوثق المصادر يليها كتابات اليونان والرومان وبعض كتابات الممالك الأخرى القديمة المعاصرة لممالك اليمن القديم. كتابات اليونان ينبغي أن تقرأ بحذر فالتبادل التجاري كان مصدر كتاباتهم وهو ماعرضهم لعدد من الأخطاء والخلط واللبس وكان لحملة الرومان المخفقة ضد "العربية السعيدة" أثر بالغ فيهم وعلى سياستهم إتجاه جنوب شبه الجزيرة العربية والتي تحولت إلى دعم مستمر لأي عدو للسبئيين [27] في نفس الوقت، فإن المكتشف من نصوص خط المسند يمثل نسبة ضئيلة للغاية من تاريخ سبأ واليمن بشكل عام، والدراسات قليلة وغير وافية ومعظم النقوش نُسخ من قبل سياح ومستشرقين دخلوا اليمن متنكرين خوفاً على حياتهم ولم تتوفر لهم فرصة لدراسة النصوص والمعابد بشكل دقيق بعيدا عن المنغصات فضلاً أن كل المُكتشف الذي تم دراسته عثر عليه على ظاهر الأرض وماتحتها يتجاوز ذلك بلا شك. فهذه معوقات لا تسمح بتكوين صورة دقيقة ومكتملة عن التطور السياسي للسبئيين وهو مافتح بابا للجدال وإختلاف الآراء والتفسيرات حول دلالات المُكتشف من النصوص [28]
الغالب أن مملكة سبأ لا تتجاوز القرن الثاني عشر ق.م ولكن كان هناك نشاطات يمنية تجارية متطابقة لنفس الأنشطة التي كان يقوم بها السبئيين منذ بداية القرن الثاني عشر تعود إلى القرن الخامس عشر ق.م منها ماورد عن تقديم هدايا من البخور للفرعون المصري تحتمس الثالث والذي كان مسيطرا على سورية حينها [29] وأبحاث قصيرة في عام 2001كشفت عن وجود حضارة زراعية تعود إلى الألفية الرابعة قبل الميلاد وهو مايُفند النظرية المستندة على التوراة بشأن أصول السبئيين [30] ومنذ القرن الثاني عشر ق.م كما هو مُعتقد حالياً، وسبأ واحدة من أهم ممالك التجارة في العالم القديم [31] أما ماهية الحضارة الأولى التي إنبثقت منها سبأ فلا يزال أمراً غامضاً.

التاريخ

كانت سبأ إتحادا قبليا يشبه الإتحادات القبلية المتواجدة في اليمن حاليا على رأس الإتحاد كاهن يقال له بلغة العرب الجنوبيين القديمة مكرب وتعني "مقرب" ويراد بها الآلهة [32] ضم الإتحاد عددا كبيرا من القبائل لا يعرف عنها شي في العصر الحالي بإستثناء عدد من القبائل لا زال متواجدا بإسمه إلى اليوم أبرزها همدان ومذحج وكندة وهي القبائل التي ذكرت صراحة بإسمها أما "الأزد" فلم تذكر بهذا الإسم ولكن وردت أسماء قبائل يعدها أهل الأخبار منهم في نصوص خط المسند أوثق مصادر تاريخ اليمن القديم [33] . والقبائل المذكورة آنفا كان وجودهم على شكل أذواء وأقيال ولم يرد نص أن أحد منهم وصل لدرجة مكرب فقد هناك قبائل أخرى تتمسك بهذه الطبقة جاء ذكر بعضها مثل "ذي معاهر" و"ذي خليل" و"ذي سحر" [34] فيبدو أن همدان كانت أرضا تابعة للسبئيين وعليهم رؤساء من بيت "ذي سمعي " أما كندة فقد كان جزء منهم يتواجدون في قرية الفاو على مقربة من مايسمى بوادي الدواسر ضمن السعودية حاليا وتشير إليهم النصوص السبئية بلفظة "ذو آل ثور" و"أبعل قريتم كهلم وقحطن" أي أرباب قرية كاهل وقحطان وكانت مذحج وقبائلها من ضمنهم وأقدم نقش يشير إليهم حكى عن إنضمامهم لتمرد ضد الأسر الحاكمة في مأرب ويظهر النص كلمة "يونن" إلى جانب كندة وهي إشارة إلى اليونان فيُعتقد أن حركات التمرد التي سادت المملكة السبئية في القرن الثاني ق.م كانت بإيعاز وتأثير من اليونانيين [35] [36] وقد ورد ذكر سبأ كثيرا في كتابات اليونانيين إذ وصفوهم بأن بلادهم المسماة "العربية السعيدة" كانت من أثرى الأماكن في شبه الجزيرة العربية وأن السبئيين كانوا يسيطرون على الطرق التجارية من بلادهم حتى حدود فلسطين [37]
في كتب التراث العربية، فإن الغساسنة والمناذرة سبئيين والحقيقة أنه لم يكتشف نص يشير إليهم بهذه الأسماء وأورد أهل الأخبار قصصا بشأن ذلك منها أن الغساسنة سميوا بذلك عند نزولهم ماء غسان بعد هجرتهم عقب إنهيار سد مأرب وهو مالا يؤيده دليل مكتشف. في نفس الوقت، فإن الوجود السبئي في أماكن الغساسنة والمناذرة مؤيد بالنقوش الآشورية وكتابات اليونان وإن كانت أسمائهم لم تظهر صراحة إلا في عهد مملكة حمير [38] والوجود السبئي في تلك المناطق ليس مرتبطا بتصدع أصاب سد مأرب القديم فالنص الآشوري الذي يشير إلى سبئيين في تيماء يعود إلى فترة كانت مملكة سبأ في أوجها [39] وقد ذكر سترابو أن السبئيين والأنباط هم ذات الشعب وهو يظهر الخلط التي وقع فيه الرومان ولكنه دلالة على وجود سبئي قرب الشام وذكر أن عاصمتهم كانت "ماريبا" (مأرب) [40] وذكر بلينيوس الأكبر أن السبئيين كانوا يسيطرون على جزر كثيرة ووصفهم بأنهم شعب من "السكونيين" وهي دلالة أن جزءاً من السبئيين كان بدوياً [41] فالسكونيين وفقاً لسترابو شعب عربي يعيش جنوب ماسوباتوميا (بلاد الرافدين)[42] وكان النشاط السبئي واضحا في مناطق الأنباط بدلالة ورود إسم ملك سبئي إسمه "زبد إيل" كان من سلم رأس "أليكساندر بالاس" الذي هرب لمناطق الأنباط هربا من البطالمة، إلى بطليموس السادسولم يكن ليذكر اليونان ذلك لولا النفوذ السياسي السبئي في المنطقة [43]

يمكن مشاهدة أطلال مدينة مأرب القديمة من مسافة بعيدة وقد ذكر اليونان أن مركزها كان مبنيا على جبل
ولكن كل هذه الكتابات متأخرة للغاية ولا تفيد الباحثين في تحديد فترة نشوء السبئيين ومراحلهم الأولى وأغلب الظن أنهم كانوا يستوطنون حاضرة صرواح وهي موقع قرب مدينة مأرب القديمة ولم يختلفوا عن أي قبيلة أخرى، إلى أن توصلوا لحل للإستفادة من مياه الأمطار فأقاموا سدا صغيرا في صرواح لحصر المياه ويعتقد أن تلك كانت المرحلة الأولى لهم. فلا يوجد أنهار في اليمن تعينهم على الزراعة ومحصول الأمطار ليس مرتفعا مما خلق لهم عددا من المشاكل فحرص السبئيون على الإستفادة من كم الأمطار الضئيل عن طريق تشييد أول سدودهم الصغيرة في مدينة صرواح تجمعهم رابطة قبلية حول الإله عثتر الذي جعلوه والدهم بل والد البشرية جمعاء قبل دخول عدد من القبائل معهم وجلبهم لآلهتهم في ذلك المجتمع الصغير [44] إستطاعت القبائل التوصل إلى وفاق وتفاهم بشأن الآلهة فأعتبرو المقه (إيل مقه) إله قبيلة تدعى "فيشان"، إلها للقمر بينما عثتر الإله الرئيسي لسبأ إلها للشمس لإيجاد رابطة عصبية تجمع هذا الحلف ضد التحالفات الأخرى القريبة منهم والتي هي بدورها إجتمعت حول آلهة خاصة بها كالسبئيين، إعتبروهم آباء وأن لهم منها ذرية ونسلا [45] ويبدو أن قبيلة "فيشان" هذه إستطاعت بسط نفوذها في المراحل الأولى للدولة حتى تصدر الإله المقه أغلب صيغ التعبد السبئية في النقوش إبتداء من القرن الثامن ق.م. قسم السبئيون قبائلهم على هذا الأساس فيمكن معرفة إرتباط القبيلة من نقوش خط المسند بعبارات مثل "ولد إل مقه " وتعني أبناء الإله إلمقه[46]وقامت القبائل الأخرى كقتبان ومعين وحضرموت بنفس الشئ مع قبائلها فقد كان الأوس من أبناء الإله ود وهو إله مملكة معين وليس سبأ وهو مايخالف توجهات أهل الأخبار بعد الإسلام الذين جعلوا الأوس ومايسمى بالأزد سبئيين [47] وكانوا مملكة صغيرة لايعرف الكثير عنها حتى الآن لم تبلغ مبلغ أي من الممالك الأربعة الرئيسية في اليمن القديم.

[عدل]حكم الكهنة

فترة مهجورة
فترة مهجورة
عصر وسيط
عصر وسيط
كتابة سبئية من الفترة المهجورة والعصر الوسيط ويظهر الإختلاف في أسلوب الكتابة ومظهر الشاهد
يُعتقد حالياً أن سبعة عشر كاهن تولوا سدة الحكم في سبأ وقد يتغير الرقم بزيادة الإكتشافات [48]يعتقد أن أول مكرب أو أول من سمى نفسه بهذا اللقب عاش في القرن العاشر ـ التاسع قبل الميلاد [49] كانت الكتابات السبئية القديمة غير واضحة وقصيرة لكنها تحسنت بمرور الوقت وحرص السبئيون على تزيين شواهدهم وتنميقها في عصور لاحقة. وهذا وهو المكرب أو الكاهن "سمح علي". ووردت عدة كتابات قصيرة في زمنه دونها رجل إسمه "صباح بن يثع كرب" يذكر فيها الآلهة المقه وعثتر وذات بعدان وقبيلة "فيشان" وإسم المكرب وهو نقش ناقص[50] وأُكتشف نقش آخر يعود إلى نفس الفترة ويُعتقد أنه تكملة النقش الناقص يشير إلى إبن المكرب وإسمه "يدعئيل ذارح" وقيامهم ببناء جدار إضافي لمعبد أوام في مأرب وفيه دلالة أن المعبد بني قبل هذه الفترة وأن ماأجري عليه كان مجرد إصلاحات [51] بل أن أبحاثاً أثرية حديثة قامت بها جامعة كالغيري الكندية على المعبد، تعيده إلى القرن الرابع عشر ق.م ومع ذلك بالكاد يُعرف شي عن ملوك قبل القرن العاشر، فما كادت البعثة الكندية تتم أبحاثها حتى عادت البعثة بسبب الإضطرابات الأمنية وقلق حراسهم المعينين من الحكومة اليمنية على سلامتهم [52] ذكر في النقش إلى جانب الآلهة عثتر والمقه وذات حميم إلهة إسمها هبس وجاء أنها كانت زوجة الإله المقه [53] وقد إهتم يدعئيل ذارح هذا ببناء المعابد وأهمها معبد أوام والنصوص تتحدث عن إصلاحات وإضافات عليه ولا يُعرف حتى الآن من الذي أمر ببنائه [54]
لم تُكتشف كتابات كثيرة عن المكاربة وأغلب نصوصهم المكتشفة بهذا النمط وإستنبط الباحثون أن ليدعئيل ذارح إبن إسمه "سمح علي ينوف" وكان الحاكم الثالث في قائمة حكام سبأ[55] كان يحكم بالتشارك مع عدد من الكهنة كذلك هم "يدعئيل بين" و"يثع أمر" وهم إخوته ويظهر أن عددا من زعماء القبائل تبرع لتشييد عدد من الإصلاحات على المعبد وكان زعيما من قبيلة قديمة إسمها "ذي يبرن" وزعيم قبيلة أخرى إسمها "ذو رحضن"[56] وهذه النون التي تزين آخر الأسماء هي أداة التعريف المطلق في لغة العرب الجنوبيين القديمة[57]وسبقت أسماء زعماء تلك القبائل لفظة "مودد" وتعني رجلا يتودد للحاكم وقريب منه [58] وأُكتشف نص آخر يتحدث عن تبرع رجل من قبيلة إسمها "ذو لحد" ببناء "مردع" (سور) لمدينة إسمها "منية" [59] قام "يثع أمر وتر بن يدعئيل ذارح" بتجديد بناء معبد الإلهة هبس [60]
حاول السبئيين في تلك الفترة تجاوز مرحلة مملكة المدينة في مأرب وصرواح وأغاروا على الجوف وأستولوا عليها من مملكة معين وقاموا بتسوير عاصمتها لتكون منطلقا لغاراتهم فيما بعد للسيطرة على باقي الممالك اليمنية القديمة ومن ثم الطريق التجارية وكان المكرب يدعئيل بين بن يثع أمر وتر قائد هذه الحملة [61] في نفس الوقت، هناك دلائل على وجود سبئي في نفس الفترة في شمال الجزيرة العربية وورد في نص آشوري للملك سرجون الثاني إسم "يثع أمر" وإختلف الباحثون في المقصود ماإذا كان هو مكرب سبأ في مأرب أم أنه زعيم قبيلة سبئية في مناطق قريبة من الآشوريين. يحكي النص الآشوري أن "يثع أمر" هذا قدم هدية للملك وأختلف الباحثون في سبب ذلك ومغزاه. فلا توجد دلائل أن الآشوريين وصلوا لليمن فالهدية قد تكون من أحد زعماء المستعمرات السبئية في جنوب فلسطين والغالب كان من باب التلطف للآشوريين وكسب ثقتهم في القوافل السبئية التي لها تجارة كبيرة في أسواق العراق حينها[62] ولكن تطابق الأسماء يرجح أن الهدية مرسلة من اليمن فإن كانت كذلك فالأرجح أن غزو الآشوريين لـ"آدوماتو" (دومة الجندل) أثر على القوافل السبئية فعمل السبئيون في اليمن على تقليل أي ضرر ناتج عن هذه الغزوة على تجارتهم بتقديم هدية لإيصال رسالة للآشوريين أنهم لايريدون حربا والإبقاء على سلامة العلاقات التجارية بينهم [63] قدر الباحثون فترة حكم "يثع أمر وتر" في القرن الثامن ق.م [64] حكم بعد يثع أمر وتر هذا إبنه كربئيل بين وقام بتوسيع وتحسين مدينة "نشق" وهي في محافظة الجوف [65] وأرسل كربئيل بين هدية إلى ملك آشوري آخر هو سنحاريب ومثل النص القديم الذي يشير لتقديم يمنيين لهدايا من البخور لفرعون مصر المسيطر على سورية، فإن هدف الهدية المقدمة للملك الآشوري كان تسهيل التبادل التجاري بين العراق واليمن ولكسب ثقة الآشوريين بالقوافل السبئية [66]

جزء من الكتابة التي دونها المكرب "يثع أمر وتر" وتعود الكتابة للقرن الثامن قبل الميلاد
تولى الحكم إبن كربئيل بين المدعو ذمار علي وتر والذي قام بتوسيعات إضافية لمدينة "نشق" التابعة لمملكة معينأصلاً قام ببناء سد صغير فيها لحصر مياه الأمطار [67] وهذه النصوص على صعوبتها وشحها تفيد أن السبئيين كانوا يتوسعون تدريجياً وببطء للإستيلاء على ممتلكات جيرانهم [68] ولا يعرف الكثير عنه سوى أنه يحكم بمشاركة أخيه "يثع أمر بين" الذي قام بدوره بثقب عدد الصخور لإنشاء ثغور تسير منها المياه وتزويدها بأبواب جديدة لزيادة التحكم بالمياه وكل هذه المشروعات تمت في مدينة مأرب ويسمي السبئيون السد بلفظة "عرمن" (العرم) في نصوصخط المسند [69] وإزدهرت مدينة مأرب في هذه الفترة التي يعتقد أنها في القرن الثامن ق.م ونافست مدينةصرواح العاصمة الدينية للسبئيين. وقام يثع أمر بين هذا بتقوية حصون الجوف التي إستولوا عليها من المعينيين وسيطر على أبين وبنى فيها سدا كذلك [70] شارك يثع أمر بين مكرب يدعى سمح علي ينوف الثاني وقام ببناء سد آخر يدعى "رحاب" للسيطرة على مياه الأمطار ويعتقد أن سد رحاب هذا هو سد مأرب الشهير وتعود زمن الكتابة إلى العام 750 ق.م (القرن الثامن)[71] وقام نفس المكرب (يثع أمر بين) ببناء "مردع" (سور) آخر حول قلعة في حريب وهو موقع على حدود شبوة عاصمة مملكة حضرموت وفيه دليل على النوايا السبئية للسيطرة على أملاك جيرانهم تدريجيا وعلى حين غفلة منهم فهذه القلاع والحصون أصبحت محطات لإنطلاق المقاتلين [72] وبالفعل شن المكرب المذكور آنفا هجوماً على مملكة قتبان وقتل منهم أربعة ألاف رجل وهاجم مملكة معين وقتل عدداً لم يتسنى للباحثين معرفته بسبب التلف الذي أصاب النقش وهاجم نجران كذلك وكان عدد القتلى فيها مرتفعاً فقتل خمسة وأربعين ألف من أهل نجران وأسر ثلاثة وستين ألف وإستولى على واحد وثلاثين ألف رأس من الماشية وقام بإحراق مدن وقرى نجران بالكامل وذكر أن على نجران رئيسا إسمه "عذرائيل" [73] وقام نفس المكرب بأعمال بنائية فقد أمر ببناء بابين إضافين لمدينة مأرب على كل باب برجين من حجر البلق الكريم وجاء في معاجم اللغة أن البلق "حجر باليمن يُضيء ما وراءه كما يُضيء الزُّجاج" [74] وقام ببناء سد أطلق عليه إسم "مقرن" لإيصال المياه إلى أبين وسدين إضافين هما سد "منهيت" و"كاهل" وحفر عددا من المسايل وقام بتوسيع مجرى السيل لسد "رحاب" (سد مأرب)[75] وفي هذه النقوش دلالات على تفوق السبئيين في بناء السدود وإبداعهم فيها فمن سدهم الصغير الأول في مدينة صرواح، توسعوا فبنوا سدودا في كل المدن والقرى التي سيطروا عليها وحولوا صحراء جنوب شبه الجزيرة العربية إلى أرض زراعية وهم من الحضارات القليلة في العالم القديم من فكر بإنشاء مثل هذه المشاريع للتغلب على صعوبة تضاريس بلادهم[76] إلا أن مشكلة كبيرة كانت تواجههم وهي إيصال المياه إلى المرتفعات الجبلية. وردت أسماء خمس أو ستة كهنة آخرين ولكن لا شي يذكر عنهم أو لم يُكتشف عنهم شي مهم.

[عدل]التخلي عن الكهانة وإنشاء المملكة

في القرن السابع ق.م ، قام المكرب كربئيل وتر بتغيير لقبه إلى ملك. فقد بدأ حكمه كمكرب ودون كتابة طويلة بخط المسند يحكي فيها متى صارا ملكا. قام هذا الملك بتوسيع نفوذ سبأ وشن حملة عسكرية خلفت تسعة وعشرين ألف وستمائة قتيل وعددا أكبر من الأسرى أسمى الباحثون كتابته "كتابة صرواح" كونه كتبها في معبد الإله المقه في تلك المدينة. وتعد هذه الكتابة من أهم النقوش السبئية المكتشفة حتى الآن وللأسف فإن الإهمال طالها وطمست كثير من الحروف الواردة فقد ذكر شيخ الأثريين المصري أحمد فخري بأن النقش معرض لعبث العامة [77] بدأ النقش بعبارة [78] :
   
مملكة سبأ
هذا ما أمر بتسطيره كربئيل وتر بن ذمار علي مكرب سبأ عندما صار ملكا. وذلك لإلهه المقه ولشعبه، شعب سبأ
   
مملكة سبأ

بقايا وخرائب معبد المقه في صرواح زعم المؤرخون المسلمين أن الجن بنته بأمر من الملك سليمان [79]

معبد إلمقه في صرواح من الداخل

جزء من كتابة صرواح

معبد إلمقه في شمال إثيوبيا قرب أكسوم أقدم المباني الأثرية في تلك البلاد والسبئيين القادمين من اليمن هم أول من عمر فيها وعلم السكان الأصليين الخط [80] يعود تاريخ البناء للقرن السابع قبل الميلاد حوالي أيام كربئيل وتر أو قبله بفترة غير بعيدة ويلاحظ التشابه في الطراز المعماري للمعبد بذلك الموجود في عاصمة سبأ الدينية صرواح

تمثال من البرونز عٌثر عليه في معبد المقه مقدم من رجل يدعى "معد يكرب" يعود للقرن السادس ق.م
تمكن هذا الملك كما يتضح من النقش، من حصر مياه الأمطار وري المرتفعات الجبلية فقام بكساء صنمي الآلهة عثتر وهبس بعد أن شكر إله سبأ المقه على تمكينه من توحيد شعب سبأ أو "معشره" كما يذكر النص وأتباعهم دون تفرقة ولا طبقية وأن منحتهم الآلهة أرضا طيبة حتى روت المياه كل أراضي سبأ. ثم إنتقل إلى ذكر مواقعه لتوحيد القبائل والممالك ويبدأ كل موقعة بعبارة و"يوم" وكانت مملكة أوسان أو "أوسن" وترجمتهاالأوس لإن النون آخر العلم هي أداة التعريف كما ورد آنفا [81] ،أكثر الممالك المتضررة من حملاته فقتل منهم ستة عشر ألف نسمة وهرب منهم من هرب ولم يحدد الجهة التي فروا إليها.ولكنه إبتدأ مواقعه بحملة على المعافروهي أرض وقبيلة في تعز نسبها الإخباريون لحمير رغم أن ذكرهم أقدم بكثير، وجاء أنه "يوم مخض" (يوم ضرب) سادة ونقباء المعافر وأحرق مدنهم وقراهم ثم قهر "ضلم" و"ضبر" و"أروى"، قتل منهم ثلاثة آلاف وأسر ثمانية آلاف وضاعف عليهم "غرمت" (غرامة) من الماشية وهاجم "ذبحن ذو قشر" و"شرجب" وإستولى على جبل عسمة ووادي صير وجعلها وقفا لشعب سبأ[82] كان هدف كربئيل وتر من هذه الحملة هو تقليص نفوذمملكة أوسان على البحر الأحمر وإن لم يذكر كربئيل ذلك في كتابته وعزى سبب حملاته إلى وحي من إلهه[83]
ثم إبتدأ الحديث عن حملته على "أوسن" وقتل منهم ستة عشر ألف قتيل وأسر أربعين ألفا وأمر بإحراق كل أراضيهم وهدم قصر ملكهم وإزالة كل الكتابات والنقوش عليه وهو ماقد يفسر قلة الكتابات الواردة عن "أوسن" وأمر بتقديم ملكهم وسادات القوم قرابين لإله سبأ إلمقه[84] أظهر الملك حقداً وإمعاناً في القسوة ضدهم تحديداً ويبدو أن تلك المملكة كانت مملكة قوية وشكلت تهديداُ لسبأ وبدأت بمهاجمة الممالك المجاورة فكان العقاب السبئي تقديم الملك وسادات القوم قرابين لإله سبأ. في البداية، أمر الملك جنوده بقتل كل من يرونه أمامهم وأن يأتوا بسادة "أوسن" (الأوس) أمامه وقرر أن يقدمهم قربانا لإلهه ثم أمر شعب سبأ بالتراجع. عاد الجيش السبئي بعد ذلك وذكر أنه قام بتسوير "أرضم همدن" (أرض همدان) وجعلها وقفا لإلهه المقه ولشعب سبأ هذا لا يعني أنه من قبيلة همدان إذ أن قبيلة "فيشان" هي القبيلة التي ينتمي إليها الملك. ويبدو أن "أوسن" من بدأ الهجوم، لإنه ملكهم بدأ بغزو أراضي مملكة قتبان ومملكة حضرموت وهو ماقد يفسر تحالف المملكتين مع سبأ ضدهم.عمد كربئيل على إحراق وإتلاف كل مدنهم حتى وصل إلى قصر "مزودهم" وأمر بهدمه وإزالة كل الكتابات والنقوش والإشارة إلى "مزودهم" (مزود) هي دلالة أن الأوس كانوا معينيين فعلا لإن المزود هو لقب حكام مملكة معين[85]
ثم توجه نحو "دهس" (يافع) وقتل منهم ألفين وأسر خمسة آلاف وأحرق مدنهم بالكامل وأمر بضم أراضيهم و"دثنت" (دثينة) بإستثناء أرض "عودم" (عود) وهم قوم من "دهس" تركها ولم يتعرض لها لإن أبنائها عظموا إله سبأ إلمقه أي إستسلموا وخضعوا دون مقاومة بمعنى أخر [86] ثم تحدث عن منطقة إسمها "أنف" و"رشأي" لا يعرف عنها شي ولكنه ذكر بعدها جردان وهو واد في شبوة وكل المدن التابعة لـ"سيبن" (سيبان وهو إسم قبيلة من حضرموت) و "كحد" ومدن "أتخ" وميفعة و"رتح" وكل وادي عبدان حتى الساحل ذكر أن كل من في هذه المناطق من جنود وعبيد وأحرار وأموال وأملاك أصبحوا ملكاً لسبأ وإلهها إلمقه[87] بمعنى أنهم أصبحوا جزء اً من المملكة السبئية وليس بالضرورة إستعباداً فلم يذكر أنه قتل منهم أحداً بل جعلها ملكيتها لإلهه كونه ملك وكاهن في نفس الوقت وصاحب السلطة الدينية العليا في البلاد [88] ثم أمر بإعادة (وهب) الأراضي "من تحت ذي أوسن" (التي سقطت بيدهم) للإلهين سين (إله مملكة حضرموتوعم (إله مملكة قتبان) لإنهم حالفوه في حملاته [89] إلا أن أهالي "كحد" المذكورة آنفاً تمردوا، فسار إليهم وقتل خمسمائة نسمة وأخذ منهم ألف طفل رهينة مقابل الولاء وألفي حائك منهم أسير وعلى كل مواشيهم ومقتنياتهم[90] رغم عدم وجود ذكرلحمير إلا أن الملاحظ أن كل المواضع المذكورة أصبحت تسمى بـ"سرو حِميَّر" ونسب غالب قبائلها لذلك القسم في كتابات النسابة وأهل الأخبار [91]
تمردت مملكة نشق وكانت في محافظة البيضاء حالياً هي ومملكة صغيرة أخرى تدعى "نشأن" فإدعى كربئيل وتر أن الإله عثتر قد أنبئه بذلك فقتل منهم ألف وأعاد الأراضي إلى ملكية سبأ من جديد وسور كل أراضيهما وفرض عليهم إسكان السبئيين في أراضيهم وبناء معبد للإله المقه ثم قام بضم أحد سدودهم لسبأ وتأجيره لملك مملكة محالفة للسبئيين وفرض عليهم جزية سنوية يدفعونها لسبأ[92] ثم إنتقل للحديث عن مملكة هرم الصغيرة وكيف أنها صارحته العداء فقتل منهم ثلاث ألاف وأسر خمسة ألاف وغنم مئة وخمسين ألف رأس من الماشية [93]
ثم تحدث عن مجموعة قبائل إسمها "مهأمر" قتل منهم خمسة آلاف قتيل وأسر إثني عشر ألف طفل وغنم مئتي ألف رأس من الماشية وذكر أنهم كانوا في "نجرن" (نجران) وفرض على نجران جزية يؤدونها للإله إلمقه[94] وختم النص بإن قدم تمثالا من الذهب للإله عثتر وإنتهى بذلك من سرد مواقعه لتوحيد البلاد وإنتقل ليتحدث عن أعماله العمرانية. وإستتب الأمر لسبأ ووحدت معظم أقاليم اليمن إلا أنه نظرا لتحالف حضرموت وقتبان، قام الملك بذكرهما في نصه وآمنهم على أراضيهم ولم يضمها لسبأ إلا أن الهيمنة السبئية واضحة فالقرار بإعادة أراضيهم كان من باب الإعتراف بالجميل وليس ضعفاً منه وإن حاول صبغها بصبغة دينية بإدعاءه أنه أعادها لأكبر آلهة حضرموت وقتبان[95]
كان لحملات كربئيل وتر أثر كبير على البلاد فقد أحرق كل المدن التي أبدت مقاومة له وقتل كل المحاربين وأمعن في إستذلال أهل القرى المعارضة بل أصبح كربئيل وتر رمزاً لمن أتى بعده بدلالة ورود نصوص عن أشخاص يحلفون بإسمه [96] ولم يكن آخر حكام اليمن الذين يحرقون ويقتلون أهل القرى المستسلمة بالكامل فقد كانت سياسة معروفة عند ملوك سبأ وحِميَّر من بعدهم ولم تُكتشف كتابات حضرمية ومعينية بنفس الأسلوب. قام كربئيل وتر بإسكان "معشره" كما يذكر باللفظة السبئية في كل الأماكن التي سجلها بإسم سبأ أو بإسم الإله المقه وإنتقل للحديث عن أعمال العمارة والبناء وإصلاح نظم الري. قام بتعلية قصره في مأرب وتقوية دعائم الطابق السفلي منه، ثم قام بإصلاح المسايل وتقوية جدران السدود [97] وقام بتسجيل أراضي كثيرة لملكيته منها "ذو حبَّاب" و"ذو شمَّر" و" ذو فدهم" و"ذو مهجم" وذكر أرض إسمها "خندف" و"عتب" و"الورخ" وأراضي إستولى عليها من زعيم قبلي يدعى "يعتق ذي خولن" وذي خولن هي خولان [98] وقام بتسوير مدن كثيرة منها رداع لم تكن مسورة قبل ذلك وسور وحصن كل الأراضي السبئية ولكنه هدم أسوار المدن الحضرمية والقتبانية رغم أنه أمنهم على أراضيهم [99]وظهر بعد هذه الحملات إسم إلهة هي ذات غضران والحقيقة أن إسمها ورد بصيغة "ذات غضرن" وبما أن النون هي أداة التعريف فإن ترجمتها تصبح "ذات الغضر" والغضر في اللغة هو سعة المال فيبدو أنها كانت إلهة مسؤولة عن المال والرزق ومايتعلق بهما [100] وأكتشف نص آشوري في نفس الفترة، عن تلقي الملك سنحاريب لهدية من ملك سبأ "كرب إيلو " ولا شك أنه كرب إيل وتر ولها نفس الغرض وهي تأمين تجارة السبئيين في العراق. ويُعتقد أن فترة الإمتداد السبئي في إثيوبيا كانت خلال هذه الفترة فقد وردت نصوص بلغة سبئية في شمال إثيوبيا ومعابد للإله المقه تعود إلى هذه الفترة أو قبلها بزمن غير بعيد. ولا يعرف على وجه الدقة طبيعة الوجود السبئي في شمال إثيوبيا قرب منطقة أكسومالتاريخية، فقد كانت هناك مستعمرات سبئية في تلك المناطق بلا شك بدلالة إنتقال خط المسند إليهم [101]ولكن لا يعرف مدى إرتباطها السياسي بمأرب فكثير من الباحثين يؤمنون أن مملكة أكسوم التي ظهرت قرابة الأول قبل الميلاد أو الأول بعده، كانوا إمتداداً لهذه المستعمرة السبئية [102] لكنها لم تكن سبئية نقية بل هم نتاج تزواج السبئيين في تلك المناطق مع السكان الأصليين [103] [ملاحظة 3]
كانت صرواح أرض السبئيين ومنبعهم عاصمة لسبأ إلا أن كربئيل وتر إتخذ من مدينة مأرب عاصمة لمملكته حيث موضع السد ومنذ ذلك الحين ومأرب عاصمة لسبأ ورمزاً لها ولا زالت آثار عدد من القصور باديا وغالبه مطمور تحت الأرض ولا يظهر منها سوى الأعمدة [104] توفي كربئيل وتر وخلفه إبنه "سمح علي ذارح" ويُعتقد أنه حكم في أواخر القرن السابع ق.م وإستطاع الآثريون إستنباط جوانب قليلة من حياته منها إبناه "إيلي شرح " و" كربئيل"[105] لا يعرف الكثير عنه ولا عن إبناه سوى نص ورد عن إيفاء "إيلي شرح" هذا بنذر كان قد نذره للآلهة وأمر بتخليد فعله في شاهد بخط المسند ليراه الناس وتولوا الحكم في المملكة فقد كان إشراك الإخوة في الحكم أمراً شائعاً في اليمن القديم وكان لعلي ذارح أخ آخر هو إبن كربئيل وتر وإسمه يدعئيل بين ولم يُكتشف شي مهم عنهم سوى بضعة كتابات لزعماء قبائل يشكرون آلهتهم على تحقيق مطالبهم ويختمون نصوصهم بذكر أسماء هولاء الملوك إلا نصاً واحدا من هذه النصوص يذكر إسم بكيل وهي قبيلة يمنية لا زالت موجودة إلى اليوم [106] تولى الحكم ملك يدعى "يكرب ملك وتر" وأقر هذا الملك قانونا يحدد فيه الضرائب على ملاك الأراضي والخدمة العسكرية المناطة بالقبائل وختم القانون بإدراج إسمه وأسماء الأقيال المؤيدين للقرار وهم أقيال "ذو حزفر" و"ذو كريم" و"ذو ثور" و"ذو خليل"[107] إذ جاء في النص عبارة "سمعم ذات علم" أي سمع أو شهد هذا الإعلام زعماء القبائل أو المقاطعات المذكورة آنفاً.ويُعتقد أنه أقر ماعُرف بالـ"فيدرالية" عند السبئيين فلم يجد الملك حرجاً في تدوين زعماء القبائل نصوصاً يصفون فيها أنفسهم بالملوك فجعل لكل مقاطعة حكماً ذاتياً يتبع المملكة عسكرياً مقابل ضرائب تدفعها هذه المقاطعات للعاصمة وجعل الباحثون مبدأ حكمة بدايات القرن السادس ق.م [108] وقد صعب ذلك من جهود الباحثين في تمييز الملوك من زعماء الإقطاعيات فتفاوتت أرائهم كثيراً حول دلالات النصوص[109]
ثم تولى الحكم الملك "يثع أمر بين الثاني" وإبتدأ حكمه بتقديم نذر للإله عثتر وأصيب بقية النقش بتلف صعبت على الباحثين معرفة النذر[110] ولكن إكتشف عن تمرد من القتبانيينوفرضهم لسلطتهم على مناطق سبئية، فقد ورد نص قتباني لملك يدعى "يدع أب يجل بن ذمار علي" يحكي فيها ضمه لأراضي قبيلة إسمها "ذبحان" و"رعين" و"صبر" وجعلها من أملاك الإله عم أكبر آلهة القتبانيين فترأس كاهن سبئي يدعى "تبع كرب" المفاوضات مع قتبان وقام بخفر خنادق وبناء أبراج حراسة بعد نجاح المفاوضات التي لم يذكر نتيجتها إلى أنه ذكر أنه توصل إلى إتفاق من نوع ما مع مملكة قتبان[111] تولى الحكم بعد "يثع أمر بين الثاني" على رأي الباحثين ، إبنه "كربئيل وتر الثاني" الذي إبتدأ حكمه بسلسلة تعديلات على قوانين الضرائب وقام بحفر أنهار وأغيلة وبناء سدود مائية جديدة ووردت نصوص نصوص من أشخاص يذكرون فيها الملك وإبنه "سمح علي" منها الكتابة المعروضة في متحف اللوفربباريس والمقدمة من شخص يدعى "عميمر بن معد يكرب" [112] لم يُكتشف شي يستحق الذكر عن حياة "سمح علي ينوف الثاني" ولا عن إبنه "إيلي شرح الثاني" وكلهم حكموا في القرن الخامس قبل الميلاد ومعظم النصوص التي يرجعها العلماء لهذا العهد تتحدث عن إصلاحات وأعمال زراعية ومن ثم ملك "يدعئيل بين الثالث" وإبنه "ذمار علي الأول" وعلى رتابة النصوص فهي دلالة على إستقرار الأمور سياسياً ويظهر من النصوص ورود أسماء آلهة أخرى مثل ود أكبر آلهة مملكة معين إلى جانب آلهة سبئيين وهي دليل على الإستقرار والهدوء السياسي الذي ساد هذه الفترة من القرن السادس وحتى نهايات الخامس ق.م [113] ثم ملك "إيلي شرح بن سمح علي ينوف" ومن بعده "ذمار علي بين" وكان شقيق "إيلي شرح" وكان "يدعئيل وتر" إبن ذمار علي بين من تسلم الحكم بعد والده وذلك وسط القرن الخامس ق.م [114] ثم ملك "كربئيل وتر الرابع" بدايات القرن الرابع ق.م وهناك فجوات كثيرة في التسلسل التاريخي لهذه الفترة جراء النقص في المُكتشف وكل مافعله الباحثون هو رص أسماء الملوك في قوائم دون إستنباط الكثير عن التطورات السياسية والإجتماعية[115] ولكن ذكر آلهة سبأ إلى جانب آلهة مملكة معين ومملكة قتبان ومملكة حضرموت في النصوص المدونة من المواطنين دلالة على الهدوء السياسي بين القبائل وتفاهمها[116]

[عدل]سلالة ملكية جديدة

وفقا لجون فيلبي في كتابه "خلفية الإسلام"، فإن كربئيل وتر الرابع كان خاتمة سلالة ملكية لتظهر بعده سلالة ملكية جديدة بقيادة ملك يدعى "إيل كرب يهنعم" الذي أكتشفت عنه كتابة شمال صنعاء [117] أكتشف نص أن ملكا يدعى "وهبئيل" (وهب إيل) وصل إلى الحكم ولم يكن من الأسرة الحاكمة المدعوة "فيشان" ولايعرف من أي الأسر هو على وجه الدقة إلا أن نصا يعود إلى إبنه "أنمار" يشير إلى الإله تألب ريام وهو إله قبيلة همدان وذلك أواخر القرن الرابع ق.م [118] قليل المعروف عن "وهبئيل" وإبنه أنمار ولكن ورد نص لشخص من قبيلة "ذي بتع" وهذه القبيلة من حاشد أو "حشدم" حسب نصوص المسند [119] ورد في النص أن الحاشدي هذا شن حملة عسكرية ولكن لا يعرف تفاصيلها بسبب التلف الذي أصاب الكتابة فأضاعت منها الكثير ولكن الواضح أنه قدم تمثالا للإله تألب ريام وهو أكبر آلهة همدان ووالدهم وفق معتقداتهم القديمة وذكر أن الملك "أنمار" أمده بقوات عسكرية لدعمه [120] تولى الحكم بعد "أنمار" إبنه "ذمار علي ذارح" ولم يُكتشف عنه شي مهم وتولى بعده الملك "نشأكرب يهأمن" وكلمة "يهأمن" تعني "يأمن" [121] وردت عدة نصوص تعود لأيامه منها نص إصلاحه لأصنام في معبد للإله عثتر كان قد أصابها تلف، ونص آخر لتقديمه أربعة وعشرين صنما لإلهة إسمها "شمس" لإنها باركت قصره وأهله ثم ذكر الآلهة إلمقه وعثتر [122] ويبدو أن الملك أصيب بعارض صحي بدلالة ورود نص لأقيال "جرت" زعماء قبيلة إسمها "ذمري" التي تنتمي لقبيلة إسمها "سمهر" وفق الكتابة ولا يعرف شي عن هذه القبائل ولم يرد لها ذكر في كتابات النسابة، قدموا تمثالين من البرونز "لإل مقه بعل أوام" (إل مقه رب معبد اوام) على شفاء الملك وأن يستمر إل مقه بإسعادهم بمنح ملكهم الصحة والعافية [123] وورد نص لزعيم قبلي من "آل جميل العرج" زعماء قبيلة إسمها "ميدع" شكروا فيها إلههم إل مقه على رجوعهم سالمين غانمين بعد غزوة أمر بها الملك نحو "أرضم عربن" (أرض العرب) وتمكنهم من إستعادة ماسرقه البدو وأخذهم أسرى وذكروا آخر النص الآلهة عثتر وذات بعدان وذات حمم وشمس [124] ويبدو أن أعراباً إعتدوا على قافلة سبئية عائدة إلى اليمن أو ربما يكون الإعتداء على مزارع سبئية ولا يعرف على وجه الدقة ماهي "أرض عربن" هذه وحرفيا تعني "أرض العرب" وكلمة عربي في كل النصوص السامية القديمة تشير إلى البدو دائما وليست بدلالة قومية وبدأت تظهر بشكل أكثر وضوحاً في الكتابات السبئية إبتداء من القرن الأول ق.م أثناء الحرب الأهلية بين همدان وحِميَّر. فقد إستغل البدو هذا الإضطراب كعادتهم للنهب والسلب وإستفاد منهم الملوك فطوعوهم لمصالحهم. كان عهد نشأكرب يهأمن أو يأمن هذا عهداً مستقراً ويبدو زاهراً بدلالة كثرة النصوص التي دونها زعماء قبائل وأناس عاديين تطلب من الآلهة أن تديم عليهم نعمها وتزيد من هذه الأفضال [125] هناك إختلاف بين الباحثين حول قبيلة هذا الملك فمنهم من يعتبره همدانيا ولكن غياب الإله تألب ريام من كتاباته يضعف هذا الإحتمال والغالب أنه من قبيلة إسمها "جرت" الوارد ذكرها آنفا من "سمهر" [126] أما كيفية وصوله لقصر الحكم في مأرب فهو أمر غامض قد تكشف أسراره إكتشافات أثرية جديدة في اليمن فهذه المشكلة تواجه الباحثين من القرن التاسع العشر فلا زال الغموض يحيط بجوانب كثيرة من تاريخ البلاد.
دخلت البلاد القرن الثالث ق.م وأدرج الباحثون إسم ملك هو "ناصر يهأمن" وهناك إجماع أنه من قبيلة همدان ولكن الإختلاف حول ماإذا كان ملكاً أم لا. فجون فيلبي إعتبره ملكاً وأفتتح به السلالة الملكية الرابعة لسبأ ولكن وردت نصوص لأناس ينتمون لهمدان يشيرون فيها إلى "ناصر يهأمن" بلفظة "أميرهمو" (أمير) ولم تدرج لقب ملك قبل إسمه [127]دون هذا الأمير كتابة يشكر فيها الإله تألب ريام على سلامته وعائلته بمناسبة بيت وختم النص بسؤال إلههم أن يزيد من قوة ونفوذ قبيلة همدان[128] وهو أمر شائع في اليمن، فبالرغم أن نعت "يهأمن" هو نعت تعظيم إلا أن هذا الزعيم القبلي لم ينظر لنفسه بدرجة أقل من الملك وكان نافذا وله قوات وأتباع وقد إفتتح هذا القيل بادرة إستقلال زعماء القبائل وتحديهم للسلطة المركزية ولا شك أن الملك السبئي خلال أيام هذا الأمير الهمداني كان ضعيفا وإلا لذكره أبناء همدان عوضا عن تجاهله والتيمن بإسم شيخهم [129] ورد إسم ملك يدعى وهبئيل يحز الأول خلف الملك الضعيف الذي لم تهتم القبائل بذكر إسمه في كتابتها وذلك منتصف القرن الثالث ق.م وورد نص أيام هذا الملك مدون من رجل يدعى رب أوم وإبنيه "إيلي شرح" و"ربيب" من قبيلة "دوسم" (دوس) يُعتقد أن دوس هذه هي القبيلة المعروفة باسم "الدوسي" يعدها الإخباريون من الأزد قدموا تمثالا للإله إلمقه حمداً له على الإيفاء بمطالبهم وحمايتهم في كل غزواتهم في الحروب بين ملوك سبأ وذي ريدان وملوك حضرموت وأنهم أرضو ولقيوا حظوة عند ملك سبأ وهبئيل يحز[130] وهذا هو النقش الوحيد المكتشف حتى الآن الذي يشير إلى قبيلة يعدها أهل الأخبار من الأزد ولم يشر إلى أن "رب أوم" هذا كان ملكاً ولم يكتشف حتى الآن أن أسرة من القبائل التي يعدها أهل الأخبار من الأزد ملكو سبأ فوهبئيل يحز همداني[131] رغم أن هولاء الأزد أدعوا أنهم كانوا ملوكا على سبأ وإختلقوا الكثير من الأساطير والقصص وراء هذا الإدعاء في العصور الإسلامية ومرور قرون وأجيال مديدة بعد سقوط مملكة سبأ.
ولكن الكتابة التي دونها "رب أوم" الدوسي هذا تشير إلى حرب وبالفعل وردت نصوص عديدة مدونة من زعماء "ذي خولن" (خولان) و"مرثد بن بكل" (بكيل) تشير إلى حروب وهبئيل يحز مع زعيم "ريدان" (حمير) المدعو "ذمار علي" وهو أقدم النصوص التي تشير إلى محاولة الحميريين إنتزاع الملك من سبأ [132] وورد في النص الذي دونه زعيم بكيل مدينة "صنعو" (صنعاء) وهي أقدم كتابة تشير إليها كذلك. وورد نص آخر لقبيلة همدان يشيرون فيه إلى الإله المقه وإلههم الخاص تألب ريام أن من عليهم وجعلهم مقربين من ملك سبأ "وهبئيل يحز" ووفق قبيلتهم "حشدم" (حاشد) في تأديب "عربن" (الأعراب) الذين تعدوا على "أسيادهم وأربابهم ملوك سبأ" وسألوا الإله المقه أن يديم عليهم نعمه بحق عثتر والمقه وحاميهم ووالدهم الإله تألب ريام [133]والملاحظ في هذه النصوص أن السبئيين لم يهتموا بذكر أسماء هولاء البدو وذلك إمعانا في إحتقارهم عكس البدو السبئيين فقد كانوا يذكرون كندة ومذحج رغم أنهم بدو إلا أنهم سبئيين كذلك وفي هذا دلالة أن البدو الذين "أدبهم" مقاتلي حاشد كانوا غرباء عنهم [134]

رأس إمرأة من البرونز يعود إلى منطقة "غيمان" وغيمان حسب نصوص المسند، إحدى قبائل همدان
وقد كان زعماء القبائل المذكورة في النص وهم "حشدم" (حاشد) و"مرثد بن بكل" (بكيل) يلقبون أنفسهم بلقب "أملك سبأ" بعد إسم الملك الفعلي وهو وهبئيل يحز وكذا فعل "رب أوم" الدوسي رغم أنه لم يشر لنفسه كملك ولهذا عدة دلالات أن زعماء همدان كانوا يحكمون أراضيهم ذاتياً ويعتبرون أنفسهم ملوكاً مشاركين في الحكم لوهبئيل يحز الذي كان ينتمي إليهم بدوره [135]
بدأ يتزايد نفوذ قبيلة همدان في الدولة وإختفى ذكر "فيشان" وظهرت أسماء قبائل "ذي خولن" (خولان) إلا أن النصوص السبئية تشير صراحة إلى خولان بأنهم من "ذو ريدان" (حمير)[136] يعتقد باحثي المدرسة الألمانية أن "وهبئيل يحز" هذا لم يكن ملكا فلا يعرف شي عن أباه فلم يذكره في أي نص ويعتقد أنه كان من سواد الناس وقاد ثورة ضد ملوك سبأ الأصليين في زمن وظرف لا يعرف عنه الباحثون وإستمر الحكم بعدها بيد ملوك من همدان [137] ملك إبنه "كربئيل وتر الخامس" بعد وفاته الذي ورد نص عن توكيله زعيماً من حاشد ليرأس "معهر" ومعهر هو مجلس تداول ومشاورة القوانين [138] دونت في عهد هذا الملك كتابات عديدة تتيمن به عند بناء البيوت أو تقديم القرابين وأكتشفت كتابة بدلالة هامة عن إله جديد لم يظهر من قبل وهو الإله ذو سماوي(صاحب السماء) ويرجع الباحثون فترة كربئيل وتر الخامس إلى بدايات القرن الثاني ق.م [139] ويبدو أن عهده كان هادئا مستقراً بدلالة كثرة النصوص التي تشكر الآلهة على وفرة الحصاد وأن يبعد عنهم "الحسد" [140] إلا أن هذا الملك إتخذ قرارا أغضب أهل مأرب وهو تعيين رجل من منطقة غيمان حاكماً إداريا عليهم ولم يعجبهم هذا التعيين فأهل مأرب كانوا يكرهون أهل غيمان [141] فأحتج أهل مأرب وألح الملك على الحاكم الإداري قمع الإحتجاجات بقوة الجيش وهو ماحدث [142] وحكم هذا الملك لمدة ثلاثين سنة ليتولى رجل آخر سدة الحكم وهو "يريم أيمن" زعيم قبيلة حاشد وتدخل البلاد مرحلة جديدة هي مرحلة مملكة سبأ وذو ريدان، فقد بدأ الملوك بتغيير ألقابهم هذه الفترة وحرصوا على إضافة أسماء الأراض التي يملكوها إلى لقبهم الملكي. ويعتبر "يريم أيمن" الحاشدي فاتح سلالة جديدة من الملوك فرغم أن من أتى قبله كانوا همدانيين كذلك لكنهم لم يكونوا من حاشد فهمدان في نصوص المسند ليس إسم قبيلة بالضرورة بل هو منطقة وإن جعلها النسابة والإخباريون بعد الإسلام شخصاً وله أب إسمه "زيد" [143] وجاء ذكر همدان في نصوص المسند بصيغة "أرضم همدن" (أرض الهمد) والنون آخر العلم هي أداة التعريف والأرض الهمد تعني الأرض الجافة التي لا نبات فيها [144]

الحرب بين همدان وحِميَّر




ظفار يريم بمحافظة إب موطن الأسرة الحميرية الحاكمة

كانت سبأ تضم عددا كبيرا من القبائل ومقر الحكم الأساسي كان في مدينة "مرب" (مأرب) ، وكل قبيلة أو إتحاد بالأصح تحكم أراضيها ذاتيا وعلى رأسهم قيل أو ذو قد تتفاهم هذه القبائل مع بعضها أو تزاحم الملوك على سلطانهم. في القرن الثاني ق.م، كانت سبأ تتمتع بوضع مستقر يتخلله بعض الإضطرابات ولكن لا شواهد على ضعف المملكة فالكتابات اليونانية في تلك الفترة تصف سبأ بكثير من البذخ إذ وصفوا السبئيين بأنهم أكثر القبائل العربية عددا، بلادهم خصبة تنتج اللبان والبخور ووصف مدينة مأرب بأنها محاطة بالأشجار و"ملكهم لا يغادر قصره ويقضي أغلب أوقاته مع النساء" [ملاحظة 4] بينما غالب الشعب تجار ومزارعين في أغلبهم وذكروا أنهم كانوا يزودون سوريةبالذهب ولهم إرتباط وعلاقات تجارية وثيقة بالفينقيين وذلك في القرن الثالث ق.م [145] وهذه الكتابات أفضل وأكثر واقعية من تلك التي سبقت حملات الإسكندر المقدوني والتي كانت تصف السبئيين بكثير من المبالغات منها أنهم يمتلكون ثعابين مجنحة لونها أحمر وماإلى ذلك من الأساطير.

مع نهايات القرن الثاني ق.م وفي العام 115 ق.م تحالفت سبأ وحضرموت وأحرقت عاصمة مملكة قتبان تمنع[146] ومنذ ذلك الحين إعتبر اليمنيون عام 115 ق.م مبدأ لتاريخهم فقد كانوا قبله يؤرخون شواهدهم بطرق أخرى إعتمادا على حوادث معينة أو على أسماء الملوك، فيختمون شواهدهم بذكر أن الفعل المعين وقع في سنة الملك الفلاني دون ذكر أي أرقام ولكن ذلك تغير بداية من العام 115 ق.م [147] أما إستقلال قتبان فحدث آخر القرن الرابع ق.م وحتى أواخر الثاني ق.م وبعدها إندمجت في سبأ من جديد[148] كان هذا الهجوم بادرة حرب أهلية طويلة بين الحميريين (أبناء الإله عم أكبر آلهة قتبان) والسبئيين والحضارم تبدلت خلالها التحالفات أكثر من مرة ولكن بلا شك أن من الإنتقام لقتبان كان أحد أسباب الحميريين لإستمرار القتال [149] كان لهذا الصراع للإنفراد بالملك أثر سئ على اليمن أنهك الممالك كثيراً وإنتشرت الأمراض والأوبئة وأطمع الإمبراطورية الرومانيةبالـ"عربية السعيدة" [150] فالمنتصر كالخاسر فيها بالضبط فلا دلائل أن أي المتقاتلين كسب مكاسب عظيمة من حربه، فكل كتابة عن نصر ما تُعقب بعدها بإنتصار آخر للعدو. ولكن هناك أسباب أخرى لإندلاع الحرب الأهلية قد تتجاوز مجرد الرغبة الحميرية بالإنتقام، فقد ضعفت مملكة سبأ في أواخر القرن الثاني ق.م بسبب هبوط تجارتهم البحرية وهيمنتهم على التجارة البحرية على البحر الأحمر[151]فآثر ذلك على مصادر الدخل ودفع اليمنيين القدماء للإعتماد على الزراعة لتعويض خسائرهم من هبوط تجارة البحر مما دفع القبائل للمحاولة على السيطرة على كافة البلاد وإلغاء النظام "الفدرالي" الذي كان سائداً [152]

[عدل]صعود حاشد


صنعاء القديمة، وجاء ذكرها في نصوص المسند بصيغة "صنعو"وهي مشتقة من "مصنعة" وكلمة مصنعة تعني الحصن. كانت أهم مراكز أسر همدان عبر تاريخ اليمن القديم والحديث
في العام 145 ق.م تمكن زعيم حاشد "يريم أيمن" من إغتصاب العرش بطريقة ما من كربئيل وتر الخامس وكانت تلك فاتحة سلالة جديدة من الهمدانيين بقيادة "يريم أيمن" وإبنه علهن نفهن [153] وكان "يريم أيمن" الحاشدي قيل ولم يكن ملكاً بدلالة ورود نص دونه بنفسه عن توفيقه في مهمة صلح بين ملوك سبأ وحضرموت وقتبان وختم النص بشكر إله قبيلة همدان تألب ريام أن رفع مكانته عند ملك سبأ "كربئيل وتر يهنعم" (كربئيل وتر الخامس) ويُعتقد أن نجاحه في مهمة الصلح بين الملوك رفع مكانته في أعينهم فطمع بالملك لذلك [154] فقد إختاره الملك كوسيط أو مفاوض عن طرف سبأ مع الممالك المجاورة ولا يعرف كيف ومتى أصبح ملكاً على سبأ ولكن ورود نص دونه زعيم قبيلة همدانية تدعى "يرسم" ، يشكر فيه الإله الهمداني "تألب ريام" على سلامة حصنه حصن "ريمان" وأن يبارك في أرضه ومزروعاته وختم النص بأن سأل تألب ريام أن يبارك في ملكي سبئي يريم أيمن وكربئيل وتر الخامس [155] فهو دلالة أنه تلقب الملك أو إشترك في حكم سبأ خلال حياة الملك كربئيل وتر الخامس والملاحظ في النص وغيره من النصوص الأخرى المكتشفة في هذا العهد أن إسم يريم أيمن يسبق إسم الملك الأصلي على سبأ وهناك نصوص أخرى ذكرت يريم أيمن وحده دون ذكر كربئيل وتر الخامس بل إكتفت بذكر تألب ريام إله الهمدانيين دون باقي الآلهة وهو ماله دلالات عديدة حول أهمها أن الهمدانيين كانوا متربعين على عرش سبأ من أيام وهبئيل يحز وأن أبناء همدان كانوا يتيمنون بأسماء أقيالهم ويتجاهلون الملوك الضعفاء[156] وبالفعل فقد كان ليريم أيمن إبنان هما علهن نفهن و بارج يهرجب (بارج يرجب) وكان لكربئيل وتر إبن واحد هو "فارع ينهب" الذي كان والد "إيل شرح يحضب" زعيم بكيل الذي ظهر في النصف الثاني من القرن الأول ق.م وهي دلالة على نزاع بين الهمدانيين على عرش سبأ. ورد نص مدون من شخص يدعى "هعَّان أشوع " من "آل يدوم" يصف فيه زعيم همدان بلفظة "أميرهمو" (أميرهم) وكان المقصود إبن زعيم حاشد "يريم أيمن" ، وجاء في الكتابة عن شكر "هعَّان" هذا لإله قبيلة همدانتألب ريام على نجاته في كل غزوة غزاها وأن يهلك ويكسر ويصرع كل عدو لشعبهم "حشدم" (حاشد)[157] لا يعرف الكثير عن فترة حكم يريم أيمن كملك ومتى خلفه إبنه علهن نفهن هذا (علهان نفهان كما قرأها أبو محمد الهمداني) فالنص الذي دونه "هعان أشوع" يشير إلى أنه كان أميراً. وصل علهان نفهان هذا لسدة الحكم وأشرك إبنه "شاعر أوتر" في الحكم . كانت البلاد تمر بفترة عصيبة وتقلص ملك سبأ كثيراً ونشبت الحروب والنزاعات بينها وبين الحميريين والحضارم.
حاولت حاشد تثبيت ملكها عن طريق تقوية تحالفها مع مملكة حضرموت فقد ورد نص تعبدي من "علهن نفهن" إبن "يريم أيمن" يدعو فيه إلهه "تألب ريام" أن يمن عليه في المفاوضات مع ملك حضرموت "يدع أبو غيلان" حتى "يتآخيا تآخيا تاماً" (يصبحوا إخوة) ضد "ذو ريدان" (حِميَّر) وكانت المفاوضات بين همدان وحضرموت تجرى مكان يقال له "ذات غيلن" (ذات الغيل) [158] هاجم الهمدانيون حمير من الشمال وساندهم الحضارم من الشرق وهُزم الحميريين في موقعة "ذات عرمن" (ذات العرم) [159] وورد نص آخر لنفس الملك يصف معركة بين همدان و"ذي خولن" (خولان و"عميانس بن سنحان") و"ريدان" بقيادة رجل حِميّري أو حليف لهم يدعى "سبت بن عليان" وإنتهى النص بشكر تألب ريام على توفيقه للهمدانيين في المعركة وتخريب حقول الخولانيين وتقديمهم لأبنائهم رهائن مقابل الولاء [160] وقبيلة خولان قبيلة حِميَّرية بينما سنحان عند الإخباريين من مذحج ولكن من نصوص خط المسند يظهر أنها وخولان من أصل واحد فلا يوجد نص يشير لخولان إلا وأشار إليهم [161] كان هناك زعيم قبلي آخر من همدان ومن بكيل تحديداً وهو "أوسئيل رفشان" الذي تصفه نصوص خط المسند بأنه "شبام أقيان" ويُعتقد أن المقصود بـ"شبام أقيان" هو شبام كوكبان في محافظة المحويت حالياً ولا زال غالبية سكانها من بكيل[162] شن أوسئيل هذا غارة على "عربن" (بدو) ما ولم يسميهم وختم النص بشكر "تألب ريمم" (تألب ريام) على توفيقه في "تأديبهم" وكان مذكورا في النص الذي يحكي مهمة "يريم أيمن" الحاشدي في عقد الصلح بين ملوك سبأ وحضرموت وقتبان [163]
ورد نص آخر لزعيم همدان "علهان نفهان" هذا يدعو فيه إلهه لتوفيقه على عقد تحالف آخر مع الحضارم وسبب ذلك أن ملك مملكة حضرموت "يدع أبو غيلان" كان قد توفي وخلفه إبنه "يدعئيل"[164] وهي دلائل أن الهمدانيين وإن لقبوا أنفسهم بملوك سبأ فإن أسر أخرى كانت تهددهم ورأوا في الحميريين أكبر أعدائهم. قام الملك شاعر أوتر وهو إبن "علهان" المذكور آنفاً، بتقديم ثلاثين تمثالا من الذهب للإله تألب ريام لتوفيق همدان بعقد تحالف ثان مع حضرموت ضد حمير [165] لقب شاعر أوتر هو من حاشد نفسه بـ"ملك سبأ" ولم يشر لذو ريدان (حِميَّر) وهي دلالة أنه رغم الإنتصار في "ذات عرمن" وعلى خولان وسنحان لم تُخضع حمير بعد ولكنه ذكر قبيلة سبئية قديمة إسمها "فيشان" كان لها الملك على سبأ ومنهم عدد كبير من المكاربة، بأنهم من "آدمهمو" (عبيده) [166] وإدعى أن الإله إلمقه أمره بمحاربة الحميريين في حريب وهو موقع في محافظة مأرب وإنتصرت همدان في هذه المعركة كذلك [167] فهم ورغم جحود القبائل لهم كانوا أقوى الإتحادات القبلية في تلك الفترة وأكثرها تنظيماً [168]

تمثال عثر عليه في قرية الفاو عاصمة مملكة كندةوالقرص على الرأس هي إشارة للشمس
تبدلت خارطة التحالفات وورد نص عن معركة بين همدان ومرتزقة تابعين لملك مملكة حضرموت إنتهت بإنتصار همدان وإستيلاء "شاعر أوتر" على "شبوت" (شبوة) و"ذات غيلم" (ذات غيل) و"ذات غربن" (ذات الغرب) وتعيين "مقتوى" (ضابط) يدعى "سعد أحرس" لمراقبة الحدود ودون "سعد أحرس" هذا كتابة يحكي فيها غزوة قام بها على موقع يقال له "صوارن" في مديرية القطن حاليا في حضرموت غنم منها غنائم كثيرة وشكر إلهه "تألب ريام" على شفائه من جروح أصابته في المعركة [169] ووردت كتابة أخرى تحكي المعارك مع حضرموت بقيادة ثلاث قوات برية وواحدة من البحر بقيادة "مهقب بن وزعان" و"ظبن أثقف" و"أسد بن أسعد" و"هيثع بن كلب" وكلهم شكروا إلههم إلمقه على الغنائم التي غنموها فيشبوة وقنا وتجاهلهم للإله تألب ريام (إله قبيلة همدان) يدل أنهم لم يكونوا همدانيين بل من قبائل أخرى محالفة لهم [170]حاول شاعر أوتر الإستيلاء على ظفار (في سلطنة عمان حاليا) من مملكة حضرموت وتوجه بنفسه وخاض عدة معارك ضد الحضارم وإنتصر فيها إلا أنه فوجئ بقوات بدوية موالية لحضرموت فإضطر للتراجع إلى مأرب [171] ولكنه سيطر على "شبوت" (شبوة) وهي عاصمة مملكة حضرموت [172] يبدو أن المعركة مع حضرموت كانت فاصلة فسيطرت همدان على الحميريين وعلى شبوة عاصمة مملكة حضرموت وإنضمت كل القبائل ودانت بالولاء لملك سبأ[173] ودلالة سيطرته على الحميريين هو إضافته لـ "ذو ريدان" للقبه الملكي فأصبح لقبه في النصوص "شاعر أوتر بن ذي بتع بن حشدم ملك سبأ وذو ريدان" (شاعر أوتر من ذي بتع من حاشد ملك سبأ وحمير) [174]
بعد تمكن همدان من الحميريين وجه شاعر أوتر قوة بقيادة قائد إسمه "أبو كرب بن أحرس" نحو "نجرن" (نجران) و"أشعرن" (الأشاعرة) وإنتصر في المعارك وإستطاع إخضاع التمرد ثم توجه نحو "ربيعة آل ثور" بعل قريتم ذات كهلم وملك كندت وقحطن" (ربيعة آل ثور سيد قرية كاهل (قرية الفاو) وملك كندة وقحطان) إنتهت المعارك بإستسلام ملك مملكة كندة فينجد وإستيلاء الهمدانيين وأحلافهم على أموال وخيول كثيرة [175] وقد ورد نص مقتضب للكندي يشكر فيه إلهه إلمقه على توفيقه في معركة ما لصالح ملك سبأ "شاعر أوتر" وهو نص مقتضب للغاية ولم يورد فيه أي تفاصيل [176] إنضمام قبيلةكندة المسيطرة على قرية الفاو حينها إلى تحالفات ضد السبئيين أدى إلى إضطراب سلامة القوافل الخارجة من اليمن أو العائدة عليه. فقرية الفاو كانت محطة إستراتيجية للقوافل وكعادة النصوص السبئية فإنها لا تعطي سببا للحروب والإضطرابات وتكتفي بذكر الوقائع. وكانت العلاقة بين مملكة كندة وممالك اليمن علاقة شد وجذب فقد غزت أراضيهم من قبل السبئيين والمعينيين كذلك غير مرة وكانت هي نفسها تغزو هذه الممالك وظهر ذلك جليا خلال مساعي الحميرييين لإسقاط سبأ رغم أنهم سبئيين، فالنصوص المسندية تشير إلى بني كندة ومذحج صراحة بلفظة "أعرب سبأ" أي أعراب أو بدو سبأ [177] ولم تكن النصوص السبئية تشير إلى ملوك كندة ومذحج بشكل إيجابي دائماً وبالذات تلك المدونة من ملوك همدان والعلاقة بين كندة ومذحج وثيقة للغاية فلم يُكتشف نص يشير إلى معركة بينهم بل على العكس كل الإنتصارات وكل الهزائم تظهر أنهم كانوا أشبه بجسم واحد في تلك العصور القديمة[178] شن حميري من خولان هجوماَ على مأرب وخرب معبد الإله إلمقهفأرسل شاعر أوتر قوة ضد خولان أنزلت بهم خسائر كبيرة وختم النص بأن ماحل بقبيلة خولان جزاء وعقاب من الإلهإلمقه [179] رغم عداوة الحِميَّريين فقد ساعدهم الحاشدي في غير موضع، إذ حاول الأحباش على الضفة المقابلة إستغلال الإضطرابات ليجدوا لهم موطئ قدم فقد أعتقدوا أن تردي الأوضاع هذا سيمكنهم من التوسع فورد نص أنهم حاولوا مهاجمة الحميريين فأرسل شاعر أوتر قوة لتعقبهم[180] ويستدل على ذلك أن ضابطا يدعى "لحيثعة يرخم" حارب "نجشن" (النجاشي) الذي "تطاول على أسياده ملوك سبأ" كما يُقرأ من النص، فحاربهم لحيثعة هذا من "بحرن ويبسن" (البحر واليابسة) وقطع رؤوس أربع مائة رجل منهم وتعقب منهم من إحتمى في عسير وذكر أنه توجه نحو "جدرت ملك حبشت" (جدرة ملك الحبشة) وفيها دلالة أنه سلك البحر نحو أراضيهم وختم النص بأن قدم تمثالا للإله المقه أن من عليه بغنائم كثيرة ومنحه أرضا خصبة طيبة وسأله أن يمن عليه وعلى أرضه وأراضي قبيلته بالبركة في فصول الصيف والشتاء [181] على آخر أيام شاعر أوتر، ظهرت أسر أخرى تشارك حاشدلقب "ملك سبأ وذي ريدان" ،أسرة من بكيل بقيادة "إيل شرح يحضب" وشقيقه "يآزل" وأسرتين حِميَّريتين واحدة بقيادة "لعزز يهنف يصدق" (العزيز يهنف يصدق) وأخرى بقيادة "لحيثعة يرخم" وهي إن دلت على شي إنما تدل على حالة الفوضى والإقتتال التي سادت سبأ منذ أواخر القرن الثاني ق.م وتوفي شاعر أوتر قرابة العام 60 ق.م [182]

[عدل]صعود بكيل


أحد أبواب قصر غمدان الذي بناه زعيم بكيل إيل شرح يحضب
إنتقلت زعامة همدان إلى بكيل وكانوا متواجدين في "هجر صنعو" (مدينة صنعاء). في تلك الأيام، كانت حِميَّر منقسمة لثلاث أقسام، قسم أُجبر على محالفة شاعر أوتر، وقسم أُجبر على محالفة إيل شرح يحضب وقسم ثالث بقي مستقلاً وإستمر في قتال زعيمي قبيلة همدان [183] كان إيل شرح يحضب ملكاً محارباً وقد وردت نصوص سبئية له وهو في شبابه يقاتل إلى جانب أباه وكان عهده مضطرباً كسائر عهد همدان إلى أن طعن في السن وأصيببالأرق قبيل وفاته لكثرة الإضطرابات والمعارك في عهده [184]
هاجم إيل شرح قبائل محافظة ريمة المذكورة في النص بإسم "ريمت" وهم قوم من خولان وأنتصر عليهم [185]واجه إيل شرح معركة أخرى مع قائد إسمه " صاحب بن جياش" ولايعرف من أي قبيلة كان إلا أن خاض معارك ضارية مع همدان وإستمرت فترة من الزمن ولم يخرج إليه إيل شرح بنفسه بل أرسل قائدا من حاشد لتولي المعارك وإنتهت بإنتصار "نوف" القائد الحاشدي المكلف وتقديم رأس ويدان "بن جياش" إلى الشرح يحضب في صنعاء [186] عاد الحميريين من جديد بقيادة "شَمَّر ذي ريدان" وإقتتلوا في عدة معارك مع إيل شرح يحضب وأنصاره كانت الغلبة فيها لهمدان كما يتضح من النصوص التي دونوها بأنفسهم ودونوا كتابات كثيرة لمواضع لا يعرف عنها شي في العصر الحالي ولكن لا دلائل أن شمَّر الحميري كان قد قُتل [187] وعاد ليتحصن في صنعاء، وكلمة صنعاء أو "صنعو" تعني الحصن حرفيا ولا بد أنها كانت حصنا منيعا للغاية[188] إستغل شمر عودة إيل شرح إلى صنعاء ليتصل بـ"أكسمن" (مملكة أكسوم) وفي خطوة اليائس، طلب منهم الدعم ضد قبيلة همدان [189] ويبدو أن إيل شرح يحضب كان على دراية بخطة شمَّر فخرج على رأس ألف وخمسمائة فارس وستة عشر ألف راكب على الجمال لاحقت الحميريين في ذمار وفي عسير بقيادة إيل شرح نفسه بينما وجه قوات أخرى من همدان تضم ألف وستة وعشرين فارس للتصدي للإمدادات القادمة من أكسوم لمساعدة الحميريين وذكر في نص أنهم أسروا وفر منهم من فر "خائبا" على حد تعبير كاتبه [190] وقد كانت مملكة أكسوم قد ظهرت حينها وحاولت إستغلال الحرب الأهلية وحالة الإقتتال والنزاع لإيجاد موطئ قدم لها في اليمن بدعم وإيعاز من الإمبراطورية الرومانية [191] فبعد إكتشاف الرومان للرياح الموسمية وتضآءل تجارة السبئيين البحرية وإنخراطهم في نزاعات وخصومات ضارية، قرر الرومان أن يجعلوا منهم "أصدقاء" وهي ليست صداقة بل أرادوا إخضاع سبأ وكل أراضيها واليمن كافة لحكمهم إما مباشرة أو من خلال حكومة "صديقة" [192]
وقد إشتبك إيل شرح يحضب مع خمسة وعشرين جماعة، بدأ بحملة على الحديدة أقرب مناطق اليمن لباب المندب وهي في تهامة ثم أكمل مسيره شمالا لعسير وخاض معارك ضد قبيلةعك وهي عسيرية قديمة يعدها أهل الأخبار من الأزد، و"أحزب حبشت" حتى جبل جمدان وهو موقع في محافظة خليص شمال جدة في السعودية حالياً فقد وقعت تلك المناطق تحت حكم الأحباش من زمن طويل بدلالة أن اليونان ذكروا أن ساحل "Cinaedocolpitae" (كنانة) بين مكان يدعى "يمبو" و"leith" (محافظة الليث) كان خاضعا للأحباش [193]وذكروا أن تحت ساحل كنانة هذا مملكة معين ومن ثم مملكة سبأ [194] كتب التراث ذكرت أن قريش كانت تسمي بني الحارث بن عبد مناة و"بني المصطلق" وبني الهون وهم منكنانة بالأحابيش وهي دلالة على خضوعهم للأحباش وإختلاطهم بهم [195] ولكنهم لم يذكروا شيئا عن سبب التسمية ولا عن حدود معين وسبأ ولا توجد أبحاث أثرية تطرقت لتاريخ الحجاز فكل مالدى الباحثين حالياً هو كتابات اليونانيين.
على كل حال، أكمل ملك سبأ وزعيم بكيل مسيره شمالاً وأنزل بسكان تلك المناطق خسائر فادحة وغنم غنائم كثيرة من مواشي وأنعام وأسر أعدادا كبيرة وعاد إلى "هجر صنعو" (صنعاء) وقصره قصر غمدان وقدم سكان جبال جمدان في محافظة خليص أطفالهم رهائن عنده مقابل الولاء [196] وتمردت نجران وكثرة النصوص المشيرة إلى حالات تمرد تدل على وهن السيطرة السبئية في تلك الفترة ومع ذلك وجه إيل شرح قوة بقيادة ضابط من حاشد يدعى "نوف" حاصر نجران لمدة شهرين وقتل 924 شخص وأسر 662 وأستبيحت 68 مدينة وأحرق ستين ألف حقل ودفن 97 بئراً وكل ذلك إمعاناً في إستذلال أهل نجران حتى خضعوا وقدموا ألف طفل رهينة مقابل ولائهم [197] وذكر إيل شرح يحضب نجران كاسم قبيلة [198] بعد أن فرغ قام بتوزيع "دلول" (أدلاء) لمعرفة مواقع المنشقين وإخماد أي تمرد فأخبروه أن جماعة منهم لا زالت في عسير وقد حرص هولاء على التمركز في مناطق بعيدة عن نسائهم وأطفالهم حتى لا يأخذهم البكيلي رهائن [199] أمر إيل شرح يحضب جيشه بقتلهم وتعقب من يحاول الهرب عبر البحر وعندما عاد لم يعد لصنعاء بل إتجه نحو مأرب حيث شقيقه "يآزل"[200] وورد نص لقيل إسمه رب شمس "قول بكل ذي ريدت" (قيل بكيل ذي ريدة ويقصد بها مديرية ريدة حالياً) قدم تمثالين من الذهب للإلهإلمقه لإنه مكنه من نصرة سيده إيل شرح يحضب وأذل أعداءه وأجبرهم على تقديم الرهائن وفروض الطاعة [201] وإنتهت ثورة "شمَّر الحِميَّري" وقاد جيش إيل شرح يحضب بنفسه للإستيلاء على مملكة حضرموت [202]
تجمع الحِميَّريين من جديد بقيادة "كربئيل ذو ريدان" ويذكر اليونانيين في نفس الفترة أن حميرياً يدعى "كربئيل" كان مسيطراً على ساحل أفريقيا حتى تنزانيا ولا يُعرف كيف ومتى حدث ذلك إلا أنه دلالة على الهزائم التي لحقت بهم لم تؤثر عليهم كثيراً [203] [204] توجه إيل شرح يحضب مع أخاه "يآزل" نحو العرش وهي موقع في رداع وتراجعت قوات الحميريين إلى إب حيث موطن الحميريين وتحصن كربئيل في حصن يقال له "ظلمان" لا يعرف عنه شوي حاليا ولكن توجد منطقة في شمال إب تدعى "ظلمة" قرب وادي سحول وإب هي أرض الحميريين وموطنهم [205] طلب إيل شرح من كربئيل الإستسلام إلا أنه رفض فأقتحم الحصن ونهب مافيه وإنتهت المعركة بإستسلامه ولم يُقتل [206] لا أنه فوجئ بهجوم من قبيلة كندة بقيادة "إمرؤ القيس بن عوف" وذكر أن إلهه إلمقه وفقه في التصدي للهجوم وأسر سيد كندة وقدم تعهداً بعدم التمرد على الإله إلمقه وفيه دلالة على طبيعة الحكم الكهنوتية لمملكة سبأ فالخروج على الملك هو خروج على الآلهة وكان سيد كندة شاباً يافعاً[207] وموضع قبيلة كندة حينها كان في موضع يقال له القشم في مأرب [208]

[عدل]حاكم مصر الروماني

إنتصارات إيل شرح يحضب لم ترض الرومان وقرر أغسطس قيصر تيسير قوة بقيادة حاكم مصر الروماني أيليوس غالوس للإستيلاء على "العربية السعيدة" وإخضاعها ولاشك أنهم أتصلوا بالأكسوميين في الضفة المقابلة للمساعدة ويُعتقد أنهم حاولوا الإستفادة من الشقاق الحِميَّري وتردي العلاقات وكانوا على علم ودراية به[209] ولكن رغبة الرومان بإحتلالجنوب شبه الجزيرة العربية تعود إلى أيام الإسكندر المقدوني ولكنه توفي قبل تحقيق مسعاه فحاول أغسطس قيصر إستكمال رؤيته [210] ورد نص لإيل شرح يحضب ولا شك أنه عاصر الحملة الرومانية بدلالة ورود إسمه في كتابات سترابو مرافق أيليوس غالوس والذي حاول تبرير إخفاق الحملة بشتى الطرق والأساليب وهناك إتفاق بين باحثي العصر الحديث على لجو ءه للكذب والتبرير وإيجاد الأعذار لصديقه غالوس وإلقاء اللائمة على دليلهم النبطي "صالح"[211] [212] ولم تكتشف كتابة بخط المسند عن هذه الحملة ويأمل الباحثون بإكتشافها يوماً ما ولكن ورد نص لإيل شرح يشير لقوة غريبة معادية تجرأت على "آلهة سبأ" وشكر إيل شرح الآلهة وأمر شعب سبأ بشكرها على نجاتهم منها وتصديه لها [213] وضع اليمن كان مضطربا فيحتمل أن الجيش الروماني عاد بفعل العطش فعلا ولكن الماء الناتج عن سد مأرب وفير وقد ذكر سترابو أنهم حاصروا مأرب ستة أيام فالوصول للماء كان متاحاً مما يضعف التبرير الذي وضعه سترابو [214] وقد ذكر سترابو أن عشرة آلاف عربي تصدو للرومان في اليمن وهو عدد ضخم وذكر أن الرومان قتلوهم جميعاً وهي مبالغة وكذب واضح[215] فإن قتلوا هذا العدد الضخم لبقيوا في اليمن ولا مبرر لإنسحابهم [216] توفي إيل شرح يحضب بعد مرض أصابه بدلالة ورود نصوص عديدة من أنصاره تتضرع الآلهة بحفظه وشفائه وتوفي إيل شرح في العام 20 ق.م أو بعده بقليل أي بعد عدة سنوات من حملة أيليوس غالوس والتي كانت بالعام 25 ق.م [217] وقد أشار القرآن إلى قدرات الجيش السبئي في سورة النمل عندما طلبت ملكة سبأ المشورة من "الملأ" حول الرد المناسب لرسالة الملك سليمان إليهم فردوا عليها قائلين وفقاً للقرآن :﴿قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾«‌27‏:33» وإن لم يُعثر لهذه الملكة ولا لسليمان أثر. ولكن حظ إيل شرح يحضب وافر في كتابات أهل الأخبار فقد كانوا يعرفونه بل جعلوه والداً لبلقيس إذ زعموا أن إسمها "بلقيس بنت إيلي شرح" ولا شك أنهم قصدوا بذلك إيلي شرح يحضب [218] [219] فجعلوه معاصراً لسليمان وهو لايصح بكل حال فسليمان إن وجد له أثر، عاش في القرن العاشر قبل الميلاد أي أيام فترة الكهنة على سبأ وليس القرن الأول ق.م[220]
كان عهد همدان مليئا بالإضطرابات وترك أثرا بالغ السوء على اليمن إذ تصحرت الكثير من الأراضي الزراعية نتاج نزاعات وحروب القبائل حتى أن زعيمهم أصيب بالقلق والأرق أو "مقيظ" بلغة السبئيين وإضطر الكثير من المزارعين إلى الرحيل وترك أعمالهم نتاج الإضطراب وقسوة ملاك الأراضي عليهم [221] كلفت هذه الحروب والمعارك للإنفراد بالملك البلاد ثمناً باهظاً، أهلكت الأرواح وأجدبت الأراضي لإنشغال القبائل بالقتال عن الزراعة والإنتاج وآثرت على نفسيات الناس ونغصت عليهم معيشتهم بدلالة كثرة النصوص التي تسأل الآلهة أن تمن عليها بوقف الإقتتال على أرض سبأ [222]

[عدل]هجوم على محرم بلقيس

حكم "وتر يهأمن" وهو إبن شرح إيل يحضب ووردت عدة نصوص في عهده منها نص لإخماد تمرد جديد من خولان ونص آخر لأقيال قبائل يشكرون آلهتهم على إتمام صهريج للبناء وختموا النص بذكر إسم الملك ونصوص أخرى لأناس تطلب الآلهة أن تمن عليهم بأبناء ذكور [223] إستمر الملك في بكيل وخلف الملك "نشأ كرب يهأمن" والده وتر يهأمن وكان عهده مستقراً وبدأ الناس بالعودة إلى وضعهم الطبيعي بعد الحرب بدلالة النصوص التي تتحدث عن شكر الآلهة لإنهم أجابوا طلبات الناس وتقديمهم تماثيل من ذهب وفضة[224]ولكن ورد نصان عن تمرد الأول من حضرموت وكان صغيراً للغاية ولم يدونه الملك بل "مقتوى" (ضابط) قدم تمثالا من الذهب على قتله رجلين من هناك وإخماده للتمرد[225]ولكن هناك نص يشير إلى قبائل تذكر أول مرة في نصوص المسند هي قبائل " حكم وقبيلة إسمها "غمد" وقبائل أخرى لا يعرف عنها شي حالياً إمتنعوا عن دفع الضرائب فأرسل الملك قوة عسكرية كبيرة أخذت منهم غنائم وأسرى[226] "حكم" هي قبيلة معروفة تتواجد في منطقة جازان حاليا وأحدهم الحكمي أما "غمد" فلم يورد المستشرق باحث النص رأيا فيها. ضعفت همدان حينها وشهدت فترة مابعد الميلاد وفي العام 40 تحديدا عودة الحميريين بقيادة ياسر يصدق الأول الذي تمكن من إقتحام مأرب وإجراء ترميم على سدها [227][228]
في العام 30 بعد الميلاد، ظهر إسم ملك يدعى "ذمار علي بين" حكم لمدة خمسة عشرة سنة ولا يُعرف عنه الكثير [229] خلفه إبنه كربئيل وتر يهنعم وعثر على إسمه منقوشاً على عدة عملات نقدية وحكم حتى السنة 75 للميلاد ثم حكم بعدها ذمار علي ذارح لمدة خمس سنين ولا يعرف عن هولاء الملوك الثلاث الكثير ولكن ورد نص عن تمرد في مأرب ضد ذمار علي ذارح بقيادة رجل يدعى "لحيثعة بن هميسع" من قبيلة "شداد" وهي أحد قبائل مذحج، قام لحيثعة هذا بإقتحام قصر الحكم في مأرب وإحتمى بداخله ولم يرد أن الملك ذمار علي ذارح أصيب بأذى وهي دلالة أنه لم يكن متواجداً في مأرب حينها[230] تصدى له ضابط سبئي يدعى "أوسئيل" (أوس إيل) وحرر القصر وأرسل قوة لتعقب ثلاثمائة مقاتل تابعين لقائد التمرد فروا من مأرب وختم النص بشكر الإله إلمقه على توفيقه في بعث السرور على قلب ملك سبأ وذو ريدان لإنه أفنى وقتل كل المتمردين وكان أوسئيل هذا منغيمان وفيه دلالة على إستمرار نفوذ همدان [231] لكن الباحثين ليسوا متأكدين حول قبائل هذه الملوك بصورة دقيقة. ملك بعد ذمار علي ذارح إبنه كربئيل بين وورد نص عن رجل من قبيلة إسمها "هلال" إسمه "حرب" على شفائه من مرض أصابه بعد معركة في حضرموت [232] خرجت حضرموت بقيادة "يدعئيل" وتحرشت بمواضع سبئية في محافظة الجوف وإستولت على مدينة براقش فأرسل الملك كربئيل بين قوة بقيادة رجل يدعى "ثوبان" وجاء في نص حضرمي أن "منذر" (جاسوس) أبلغ الحضارم عن المدد فتحصن الحضارم في براقش وأرادوا إستدراج الملك إليهم وبالفعل خرج لهم بنفسه فهاجم الحضارم مأرب وأرادوا تخريب معبد برأن أو "محرم بلقيس" كما يسميه اليمنيون اليوم [233] كلف ذلك الهجوم الحضارم ألفي رجل منهم وأمر كربئيل بين بالإستيلاء على كل أموال وخيول وجمال الحضارم ومقاتلة كافة عشائرهم حضراً وأعراب [234] توجد فجوة بعد هذا الإنتصار إذ ظهرت أسرة حميرية جديدة قرابة العام مائة للميلاد وهي أسرة ياسر يصدق الأول والتي من سلالته كان ملوك مملكة حمير ولكن لم تستسب الأمور لهم بعد فقد جابهتهم ثورات عديدة من أسر وقبائل مختلفة كلها تطمح للسلطان أو الثأر لهزيمة لحقت بها فأصبحت البلاد مسرحاً للعبث لا تخمد حرب إلا وتقوم أخرى [235]

[عدل]المراحل الأخيرة

ورد نص لأقيال قبيلة من بكيل يشكرون الآلهة على إتمامهم بناء "معهر" (مجلس إستشارات) وختموا النص بذكر إسم الملك "ياسر يصدق ملك سبأ وذو ريدان" وهو دلالة على خضوع بكيل وهم قبيلة سبئية للحميريين أخيراً[236] وياسر يصدق هو والد ذمار علي يهبر الأول [237] قام ذمار بإنشاء سد في أبين وأسماه على إسمه[238] وحكم بعد ذمار علي يهبر إبنه ثارن يعب ولا يعرف عنه شي وخلفه إبنه ذمار علي يهبر الثاني ومن ثم شمَّر يهرعش الأول ولا يعرف الكثير عنهم سوى ورود أسمائهم على عملات نقدية.
إلى سنة160 بعد الميلاد تقريبا، كانت أسرة من الحميريين على عرش سبأ ثم أجلتها أسرة من حاشد وتولى إثنا عشر رجل منهم الملك في مرحلة مضطربة وورد نص يشير إلى قبيلة إسمها "بلجرش" يعتقد أن لها علاقة ببلجرشي وهي في منطقة الباحة في السعودية حاليا وخاض الملك الحاشدي "رب شمس نمرن" معركة ضدهم ودون "المقتوى" نصا يشكر فيها الآلهةالمقه وذات بعدان عن توفيقه في الغزوة ونجاته من مرض كان قد عم في البلاد حينها وكان القائد على رأس الكتيبة رجل يدعى "عبد عثتر" [239] لم يشر النص إلى غامد وهي الأصل المفترض أن بلجرشي تعود إليه ولكنه أشار إلى "بلجرش" صراحة وهناك إحتمال آخر أن المقصود "مخلاف جرش" وهو في محافظة أحد رفيدة حاليا. ويعتقد الباحثون أن وباء ما إنتشر في الجزيرة العربية قادما من الهند في الأساس بينما يرجح ألبيرت جامه أن سبب الوباء هو ترك الملوك لجيف القتلى مكشوفة [240] وعائلة "نمرن" الحاكمة في هذه الفترة من "حشدم" حاشد كما تشير النصوص المكتشفة لهم وتولى إبن "رب شمس" المدعو "سخمان" من بعده وكان من عشيرة "بتع" من "حشدم" [241]
كانوا الأسرة السادسة التي تعاقبت على حكم سبأ ومن ثم الأسرة السابعة ويظهر أنهم كانوا من حمير وهي السلالة التي ينتمي إليها شمر يهرعش ومن تلك السنة من 180 بعد الميلاد حتى 275 ، شن الحميريين غارات متواصلة إلى أن إستتب لهم السلطان وقيام مملكة "سبأ وذو ريدان وحضرموت ويمنت" أو مملكة حمير بعد نجاح قوات من كندة ومذحج في إخضاع مملكة حضرموت في نفس العام أو بعده بقليل ودخلت البلاد مرحلة جديدة وهي مرحلة الحكم المطلق للحميريين [242] [243] فقد أرسل شمّر قوات من خولان نحو عسيرلإخماد تمرد إنتهى بإخضاع تلك القبائل وجلب قائد الكتائب "باهل أسعد " للأسرى إلى مأرب [244] ووجه قوة أخرى من "سفيان" وهم حاليا أحد قبائل خولان كذلك نحو من وصفهم النص ب"حقرن" (حقراء) همدان وأخضعها وشكر السفياني الألهة أن منت عليه في مهمته التي كُلف بها وأن مكنه من تقوية سد مأرب إرضاء لسيده شمّر [245] وقد إستفاد شمّر من كندة ومذحج خلال مساعيه لضم مملكة حضرموت ومن ثم تخليص نجد والبحرين والإحساء من المناذرة [246]
وبذلك إنتهى عهد مملكة سبأ وقامت مملكة حمير بعد مايقارب ألف ومائتان سنة تخللتها سنوات غير قليلة من النزاع والإقتتال والصعود والهبوط ولا زال المكتشف يمثل نسبة ضئيلة من هذا التاريخ الذي يكتنفه الظلام من كل جانب، فالآثريين وعلماء الإنسان أعادوا كتابة تاريخ اليمن من المذكرات التي تركها رحالة مثل إدورد جلازر وجوزيف هاليفي ولم يكن هولاء ضمن بعثة أثرية منظمة وتتعرض الحملات الإستكشافية الحديثة لعدة معوقات أبرزها الوضع الأمني المضطرب في اليمن ويأمل الباحثون إمكانية إجراء أبحاث جديدة تساهم في سرد تاريخ البلاد القديم بشكل أدق وأوضح [247]

صورة فضائية لمعبد اوام المطمور تحت الرمال وتظهر الأعمدة على ظاهر الأرض

[عدل]نظام الحكم والمجتمع




شاهد قبر لإمرأة سبئية ثرية إسمها "غليلات" وفي الشاهد مايساعد على فهم طبيعة المجتمع من العبيد والخدم حولها والكراسي التي كان يستخدمها السبئيون وتصميمها

كان نظام الحكم عشائريا بدأ بالكهنة أو المكاربة ثم إلى الملوك ويعد كربئيل وتر مؤسس المملكة الحقيقي والذي إدعى أن الآلهة أمرته بشن غزواته والتي سيطر من خلالها على مصادر اللبان والبخور ووصل إلى ظفار وثبت نفوذه في الضفة المقابلة في إثيوبيا فإزداد ثراء مملكته وكل ذلك بإيعاز من الآلهة بالطبع [248] وأقيم نظام يمكن تسميته بفدرالية فقد أوغل كربئيل في القسوة ضد أعدائه ووضع رؤساء على الأراضي التي إستولى عليها من مملكة أوسان، لم يكن هولاء الرؤساء سبئيين بل من صميم الممالك والإقطاعيات التي دمرها. كما أنه رد أراضي حضرموت وقتبان لملوكها زاعما أن إلهه المقه أمره بوهبها إلى الإلهين سين وعم وهم أكبر ألهة الحضارم والقتبانيين. في نفس الوقت، أقدم كربئيل على هدم أسوار هذه المدن الممنوحة لهم بينما حرص على تقوية تحصينات مأرب والجوف والإقطاعيات التي سجلها بإسم سبأ وبإسم قبيلته فيشان. والسبب في ذلك هو ضمان سيطرته على حضرموت وقتبان فلا يقومون بتقوية حصونهم ومن ثم مهاجمته [249] الملاحظ في طريقة الحكم هو العقلية القبلية الإقطاعية وهو أمر كان موجودا في كثير من المجتمعات القديمة وإن كان كربئيل وتر إستثنائا لمن أتى بعده من الملوك. فقد عمد كربئيل على إضعاف زعماء القبائل المنافسة بكل الأشكال وإستخدم الإرهاب والقسوة المفرطة لتحقيق ذلك إلا أن أبنائه كانوا أكثر مرونة منه وأسسوا المجالس المحلية المكونة من "ثمينتن" (ثمانية) في كل مقاطعة مهمتها إقتراح القانون وتقديمه للملك نفسه وفي حال الموافقة يدرج إسم الملك وأسماء أعضاء المجلس الذين يكونون من أقيال القبائل عادة في نص القانون. نصوص خط المسند لا تعطي تفصيلا واضحا لنظام الحكم والقوانين ولكن إستنبط من بعض الكتابات المكتشفة عددا من الأحكام والشرائع وكلها تدرج إسم الملك وأسماء زعماء القبائل الموافقين على القانون ممايدل على وجود نظام تشريعي من نوع ما لم يقف الباحثون على ماهيته بعد. وهناك إشارات عديدة لضرائب يدفعها ملاك الأراضي والتجار للدولة وهي من أهم الدلائل على الحضارة، فالمجتمعات التي لا تدفع الضرائب لا يمكنها بناء أي حضارة فالضرائب أحد اللبان الأساسية لأي مجتمع متحضر [250]

اليونان كتبوا عن ذلك ولكن لا يمكن الإعتماد على كتابتهم كليا، فهي أشبه بقصص السياح والتجار ولم تكن بتمحيص وتدقيق وقد تتعرض للمبالغات أو الأخطاء، إلا أن سترابو ذكر أن هناك قانونا صارما يمنع تغيير المهن وأن كل عائلة أو طبقة ملزمة بوظيفة ما، فالمزراع لا يمكن أن يكون تاجرا على سبيل المثال ويسري هذا القانون على أبنائه وفقا لسترابو [251] ولا شك أن النظام كان ملكيا وقد يشرك الملك أبنائه أو إخوته في الحكم ولا يجد حرجا في تدوينهم لكتابات يصفون فيها أنفسهم بملوك أو مكارب سبأ ولكنهم كانوا يحسبون حسابا لأقيال القبائل فتركوا لهم تسيير شؤون مقاطعتهم بل وردت نصوص تظهر ضعفا من بعض الملوك إتجاههم [252] وكانت الدولة تضم قبائل عديدة وتُعرف القبيلة في نصوص خط المسند بإسم "شعب" فذٌكرت ألفاظ من قبيل " سبأ وأشعبوهمو" وتعني سبأ وقبائلهم [253] وكان المجتمع طبقياً بإمتياز فهناك الكهنة وهم غالب الملوك ثم موظفي الدولة المقربين منهم كالمسؤول عن الضرائب في المعبد ويشاركهم المنزلة زعماء القبائل ويشار للزعماء أو المشايخ أو "أبعل" أو "أسود" وكلها صيغ جمع لمصطلحات قيل وبعل وسيد ثم بقية الشعب ويقال لهم "جوم" والجيم تنطق مصرية في لغة السبئيين وأدنى طبقة كانوا العبيد ويشار لهم بلفظة "آدم" أو "عبد" [254] وكان الملك محصورا في أسر معينة ولا عبرة لما ورد في كتب النسابة وأهل الأخبار أن الملوك في اليمن كانوا لا يتجاوزون مخاليفهم وقد قصدو بذلك الأذواء وهم من عظم شأنهم في عصور متأخرة قبيل الإسلام على حساب مركز الدولة، أما الأصل في نظام الحكم فقد كان الملكية التي تورث للأبناء أو الإخوة يليهم هولاء المشايخ والأذواء [255] بشكل عام، عاش الشعب اليمني القديم في قرى زراعية ومدن صغيرة تحيط بها جدران دفاعية. وقد اكتشف علماء الآثار الفرنسيون أن المنازل المتعدد الطوابق تشبه المنازل التي ينظر اليها في اليمن اليوم. في أوقات مختلفة عبر التاريخ القديم، قد تشكل القبائل تحالفات قوية وتطيح بالأسر الحاكمة وتم تشكيل اتحاد كونفدرالي سبا، قتبان، مملكة معين،وحضرموت [256]

[عدل]الأسر الحاكمة

كان الحكم في قبيلة إسمها "فيشان" من القرن العاشر ق.م وحتى الثالث ق.م إلى أن إنقلب رجل من سواد الناس يدعى وهبئيل يحز يُعتقد أنه من همدان [257] [ملاحظة 5] في القرن الأول ق.م كانت هناك عدة أسر تدعي أن لها الملك على سبأ ولكن همدان كانت أقواهم [258] والألفاظ من قبيل "وتر" و"ينوف" و"بين" و"نفهن" و"يحضب" التي تعقب الأسماء هي ألقاب وليست جزءاً من أسماء ولادتهم:
1- قبيلة فيشان
  • علي ينوف
  • يدعئيل ذارح
  • يثع أمر وتر
  • يدعئيل بين
  • يثع أمر وتر الثاني
  • كربئيل بين
  • علي ينوف الثاني
  • ذمار علي
  • علي ينوف الثالث
  • يثع أمر بين الثاني
  • كربئيل وتر الأول (مؤسس المملكة)
  • علي ذارح الثاني
  • كربئيل وتر الثاني
  • إيلي شرح بن علي ذارح الثاني
  • يدعئيل بن كربئيل وتر الثاني
  • يكرب ملك وتر الأول
  • يثع أمر بين الثالث
  • كربئيل وتر الثالث
  • علي ينوف الرابع
  • إيلي شرح بن علي ينوف الرابع
  • ذمار علي الأول
  • كربئيل وتر الرابع
  • كربئيل وتر الخامس
2 - أسر همدان
  1. أقيال "بتع بن حشدم" (حاشد):
    1. يرم أيمن
    2. علهن نفهن
    3. شاعر أوتر
    4. حي عثتر
    5. رب شمس بن نمرن
  2. أقيال "مرثد بن بكل" (بكيل)
    1. وهبئيل يحز
    2. أنمار يهنعم
    3. نشأ كرب يهنعم
    4. ذمار علي ذارح
    5. نشأكرب يهنعم الثاني
    6. فارع ينهب
    7. إيلي شرح يحضب بن فارع ينهب
    8. يأزل بن فارع ينهب
    9. نشأ كرب
(وكلا الأسرتين كان يحكم في وقت واحد ويحاول إقصاء الأخر)
4 - أسر حمير (ذو ريدان)

[عدل]الدين


عثتر والجدي أو الوعل هي إشارة رمزية تشير إلى النجم أو الكوكبة المعروفة باسم الجدي. وجعله صانع التمثال مبتسما

مذبح الإله عثتر

مذبح إلمقه معروض في متحف إسطنبول للآثار
لا زالت معارف الباحثين بشأن البانثيون اليمني القديم ضئيلة إلا أن طبيعته النجمية أو الكوكبية أمر لا جدال فيه[259] يقول المستشرق الإنجليزي ألفريد فيليكس لندن بيستون أن الآثار القليلة المكتشفة للحضارات العربية الجنوبية تدل على حضارة متقدمة للغاية في زمنها بينما المعطيات عن مراحلها الأولى تكاد تكون شبه معدومة حاليا فلا ينبغي للباحثين التسرع في إطلاق الأحكام والنظريات أهمهما نظرية ثالوث الشمس والقمر وإبنتهما كوكب الزهرة، فلا يمكن تأكيد نظرية ما بشأن معتقدات السبئيين القديمة مالم يقف الباحثون على مراحلهم الأولى فكل النظريات الحالية هي إحتمالات ومحاولة فهم الدين اليماني القديم من خلال مقارنته بحضارات الشرق الأدنى[260]
أكبر آلهة البانثيون اليمني القديم هو عثتر وله عدة صفات فهو "عشتر شرقن" (عثتر الشرق) و "عثتر غربن" (عثتر الغرب) و"عثتر ذو قبضم" (عثتر ذو قبض) و"عثتر نورو" (نور عثتر) و"عثتر سمعم" (عثتر السميع) و"عثتر قهحم" (عثتر القدير) و"عثتر يغلن" (عثتر الموغل في الدمار) و"عثتر قهرم" (عثتر القاهر) هو إله اليمن الأكبر بإختلاف القبائل والممالك، إله الأعاصير، القتال والإنتقام، ممثل كوكب الزهرة والنسخة الذكرية من عشتار ووالد البشرية جمعاء الذي تغلب على الإله إيل الذي كان يطلب من اليمنيين أن يقدموا بناتهم أضاحي له ولم يعد يظهر (أو كان يظهر) إلا في أسمائهم الثيوفورية ككربئيل ويدعئيل وشرحبيل ووهبئيل وأوسئيل وماشابهها [261] [262] [263] ذكر جواد عليأن عثتر هو النجم الثاقب المذكور في سورة الطارق في القرآن[264]
كان المجتمع متدينا للغاية حتى أن اليونانيين لاحظوا ذلك وكتبوا أنهم أكثر تدينا أو تعلقا بالآلهة والأسحار أكثر من أي مجتمع آخر [265] وكان مفهوم الدولة نفسها متمحورا حول الإله قومي وأبنائه (الذين هم الشعب نفسه) وبني لهذا الإله معابد يطلق عليها لفظة "حرم" وبنيت هذه الحرم بشكل دائري لتمسح لزائريها مريدي الطهارة الروحية الطواف حول أصنامهم الخاصة والتي كانوا يعتقدون أنها أبناء إلههم القومي الأكبر وكان هذا المفهوم ساريا في كل ممالك اليمن القديم [266] فالإله تألب ريام مثلا، كان إلها سبئيا بالفعل ولكنه إله مخصوص لقبائل همدان وكذا الحال مع "كهلن" (كهلان) أو بشكل أدق كاهل إله كندة ومذحج والإله قينان إله بني سخيم [267] [268]وقد تحولت هذه الآلهة إلى بشر كما يقرأ من سلسلة الأنساب التي وضعها الإخباريون فقد زعم الهمداني في الإكليل أن تألب ريام جد همدان الأكبر وجعل له زوجه هي "ترعة" وترعة في الحقيقة هو إسم معبد تألب ريام فجعل الإخباريون واليمنيون منهم تحديدا الآلهة أجدادا وكأنهم أحيوا سنة أجدادهم الذين هم بدورهم كانوا يعتقدون أنهم أبناء آلهتهم [269] هذا لا يعني تجاهل الهمداني وكتابه الإكليل فهو على بعض أخطائه ومبالغته مثله مثل غالب ماكٌتب عن التاريخ القديم في العصور الوسطى، إلا أنه أكثر كتب هذه العصور موثوقية ماتعلق بتاريخ اليمن القديم ووصوفاته مهمة بشأن العمارة والإقتصاد [270]
إله سبأ القومي كان الإله المقه إسمه أصلا هو "إيل مقه" وتكتب "إلمقه" لا "المقه" ويعتقد أنه زوج الإلهة "شمس" ولم يكن بالضرورة إلها للقمر [271] والإلهة "شمس" كانت إلهة الحميريين القومية وهو مايعطي دلالة عن علاقتهم "الأخوية" المزعومة في كتب الإخباريين، فأهل الأخبار زعموا أن حمير إسم رجل كان أخا "لكهلان" وكلاهما أبناء لسبأ بينما يستنبط من نصوص خط المسند أن إلهة الحميريين الكبرى كانت زوجة إله السبئيين الأكبر ودورها ضئيل جدا في مجمع الآلهة السبئي [272] كان إلمقه "سيد الأرض " أي إلها مسؤولا عن الزراعة وجلب الأمطار وإلها محاربا كذلك مسؤولا عن حماية السبئيين وترمز النقوش له غالبا على هيئة ثور [273] هذا لايعني أن الثور تجسيد له بل هي حيواناته المفضلة وأكثر السبئيون من التضحية بها إما تقربا للآلهة وشكرا لها على عطاياها أو لإتقاء غضبها وإبعاد الشرور والمصائب عنهم. معنى إسمه أختلف حوله الباحثون، فإيل هو الإله الكنعاني المشهور بينما كلمة مقه غامضة المعنى وأغلب الظن أنها بمعنى "قوي" [274] ويعتقد أن لإسم الملكة الأسطورية بلقيس علاقة به، فعدد من الإخباريين أورده بصيغة "يلمقه" وكذا ذهب الآثاري الأميركي ويندل فيليبسمؤمنا أن لإسمها في كتب التراث علاقة بهذا الإله [275]
ويعتقد أنه كان أحد أبناء عثتر. فعثتر حسب معتقدات اليمنيين كلهم وليس السبئيين فحسب، كان والد البشرية جمعاء بمثابة آدم عند أتباع الأديان الإبراهيمية بإختلاف بسيط. فزوجة عثتر لم تخرج منه بل العكس عثتر كان أنثى وخرج منها الذكر فتزاوجوا وخلفو أبنائهم آلهة اليمن القديم الأربعة والذين هم بدورهم خلفوا آلهة أخرين لكل قبيلة كتألب ريام الهمداني و"كهلان" (كاهل)القحطاني (كندة ومذحج) [276] ولم يكن إلمقه إلها للخصوبة، فقد ورد نص لقيل من قبيلة خولان يشكر فيه إلمقه على توفيقه في غزوة غزاها لإخماد تمرد في عسير وشفائه من جرح أصاب ساقه خلال الحملة وختم النص بدعاء لعثتر أن يهب له ذرية وهو نص متأخر إلى حد ما ويعود لعصر سيطرة حمير. وورد نص سبئي عن تقديم إمرأة أربعة تماثيل من الذهب لعثتر لإنه من عليها ووهب لها ثلاث بنات وولد واحد وكل النصوص المتعلقة بالخصوبة والنسل تشير إلى عثتر وهي دلالة أنه كان إلها للخصوبة كذلك [277] بالإضافة لعثتر وإبنه إلمقه ثم أبنائه (على مايعتقد) وردت نصوص سبئية عن إله إسمه نسر وقد ورد ذكره في القرآن وكان إله قبيلة تدعى "ذو قلاع" وله شهر خاص به[278] الإلهة هبس زوجة عثتر والإلهة ذات حميم وقد تكون كناية عن الشمس أو شي آخر وذات بعدان وذات غضرن وكل هذه الآلهة إناث وذكروا كثيرا في نصوص خط المسند ولم يرد نص أنهم ذكروا وحدهم أو تقدموا على آلهة القبائل الرئيسية.

[عدل]بيوت الآلهة


"محرم بلقيس" والحقيقة أن لا علاقة لبلقيس بتسمية الحرم عند السبئيين إنما إلتصقت به التسمية عند العامة وإسمه السبئي معبد برأن أو "محرم برأن"
بني للإله إلمقه معابد رئيسية في صرواح ومأرب كمعبد أوام وبرأن وحوالي واحد ثلاثين معبد فرعيا وأكتشف له معبد بني في القرن الثان ق.م في شمال أثيوبيا. كان المتعبدون يقصدون معبد أوام في مأرب في شهري "ذو أبهي"أو "ذبحي" و"ذو حجتن" (ذو الحجة) ويسمي المستشرقين معبد أوام "بالمعبد الفدرالي" كون كل "أبناء إل مقه" يجتمعون فيه مرتين في السنة ليؤدوا واجباتهم إتجاه آلهتهم ويقدموا الأضاحي ويقووا من الرابطة القبلية التي تجمعهم ويعد موسما للتربح كذلك إذ حرصت الدولة على فرض ضرائب لداخلي المعبد ويعفى المعبد نفسه عن تسديد أي ضريبة [279] يحضر الموسمين كل طبقات المجتمع من الملك مرورا بالأقيال والأذواء وسواد الناس إلى العبيد المسخرة وقد يحضر ممثلون من ممالك مجاورة كذلك ويتم إقامة الولائم من الأضاحي عقب الطواف في قاعات مخصصة لذلك وكل مملكة من الممالك الأربعة كان لديها نظام مشابه [280] وكلها ذات هدف واحد وهو إثبات "فدرالية" الدولة والحرص على إبقاء الرابطة القبلية التي تجمع القبائل "بأبائها الآلهة" ويلاحظ أنه فور سيطرة الحميريين وإلغائهم النظام "الفيدرالي"، قاموا بتوحيد جميع الآلهة في إله واحد. يتخلل موسم بالإضافة للطواف أو "طوف" والولائم، جلسات إعتراف للكهنة بالذنوب وتمنع النساء منعا قطعيا من دخول الحرم في فترة الحيض [281] أغلب المعابد بني في قمم الجبال وبعضها إتخذ صبغة إسلامية مثل جبل النبي شعيب الذي كان موقعا لمعبد قديم لا علاقة له بشعيب هذا [282] خلال سيطرة أسر من قبيلة همدانوإعتبارهم "هجر صنعو" (مدينة صنعاء) عاصمة ومركزا لهم، إدعى الهمدانيون أن إلههم تألب ريام ترك لهم كتابة بخط المسند قائلا فيها :" لقد عليتنن سم ذبحي من حضرن لمقه ذي مرب" وترجمتها أنه أعلى أو رفع شأن إسم شهر ذبحي من الحضور أو الذهاب لمقه (ذي مأرب). وللباحثين عدة تفسيرات للنص منها أن قبيلة همدان أرادت رفع شأن إلهها على باقي الآلهة وتحويل موسم الحج من مأرب إلى صنعاء ، وعلى كل حال يبدو أن مساعيهم لم تنجح وإستمر معبد أوام يؤدي دوره إلى القرن الثالث الميلادي [283] ورغم ترك الحميريينللوثنية في القرن الرابع وتواجد المسيحيين واليهود فإن القرآن في سورة سبأ لم يذكر السبئيين بأنهم من أهل الكتاب وهي دلالة أنه مع نبوة النبي محمد كان لا يزال عدد من اليمنيين وثنيا.

[عدل]الإقتصاد


إعادة تصميم لما كان عليه سد مأرب القديم من تصميم جامعة كالغيري والمؤسسة الأمريكية لدراسة الإنسان

بقايا سد مأرب القديم

المدرجات الجبلية في اليمن، لم تكن من نتاج الطبيعة بل تقنية مقصودة من السبئيين لمساعدتهم على زراعة المرتفعات

لا زال عدد من الصهاريج القديمة يستخدم في أرياف اليمن
الزراعة والتجارة بما تنتجه الأرض كان عماد إقتصاد السبئيين وقد إستطاع الباحثون الإسهاب في هذا الجانب من تاريخهم أكثر من جوانب أخرى للنصوص المكتشفة المتعلقة بالزراعة وتنظيمها من قوانين كانت تكتب على صخور كبيرة توضع على مدخل السوق إن كانت متعلقة بتجارة أو تحفظ في المعابد ماتعلق الأمر بالضرائب والمزروعات[284] ويختلف اليمنيون قديما وحديثا بشأن نظرتهم للزراعة عن معظم سكان شبه الجزيرة العربية ومرد ذلك طبيعة بلادهم بدرجة أولى[285] الماء قليل في شبه الجزيرة العربية بما فيها اليمن قديما وحديثا وهو مادفع السبئيين والمعينيين لإنشاء مستعمرات على طول الطريق التجارية عوضا عن بناء حكومة مركزية ومجتمع كبير [286] ولكن حظ اليمن من الأمطار أوفر رغم أنه غير منتظم وهزيل مقارنة بمناطق أخرى من العالم. وعدم إنتظام الأمطار وهطولها بشكل مفاجئ قد يسبب كوارث طبيعية أهمها السيول ولا شك أن اليمن عانى منها فعمل السبئيون على بناء السدود للإستفادة من هذه السيول قدر المستطاع. وبالفعل فقد رويت أراضيهم أيام الإستقرار وجدبت أيام الإقتتال والنزاع القبلي، فكل الوارد في نصوص خط المسند عن تصدعات أصابت سد مأرب، كان يرد في فترات القتال والنزاع غالبا لإنشغال القبائل بالقتال وإهمالهم صيانة السدود.

[عدل]الزراعة

قاموا ببناء السدود لتجميع السيول في أحواض وتوجيهها الجهة التي يريدون عن طريق أبواب تفتح وتغلق حسب الحاجة ويعتبر سد مأرب أحد أقدم السدود في العالم وكان يروي مايقارب 24,000 آكر (قرابة 98,000 كم مربع) [287] وعده الباحثون معجزة تاريخ الجزيرة العربية [288] ودفع السبئيون الأجور وقدموا المواد الغذائية للعمال الذين يقومون بصيانة السدود وبنائها إلا في حالات الطوارئ، فحينها كان الملوك يجبرون زعماء القبائل والمواطنين وكل من يجدونه أمامهم على العمل لتجنب الكارثة [289] هناك إختلاف بين الباحثين حول مرحلة بناء السد، فقد مر بعدة أطوار وأبحاث أثرية حديثة قام بها المعهد الألماني للآثار تشير إلى نظم زراعية قرب مأربتعود إلى الألفية الرابعة ق.م [290] إلا أن السد الشهير نفسه يعود إلى القرن الثامن ق.م وبقي صامدا يؤدي عمله حتى عام 575 ب.م [291] تعرض لعدة تصدعات ولكن نهايته كانت في العام 575 بعد الميلاد لغياب حكومة مركزية وإضطراب الأمن في البلاد وتدخل القوى الأجنبية (الفرس) وإستقلال زعماء القبائل بإقطاعياتهم [292]في القرن الثامن، وردت نصوص لمكاربة تشير إلى تعلية وإصلاحات على السد فبلغ طوله 577 متراً وعرضه 915 متر وهو ضعف سد هوفر الأمريكي [293] وبني في الجهة التي تسيل منها السيول فتمكن السد من حصر الماء وزود بثقوب أو أبواب لتسمح بقدر أكبر من التحكم بجهة المياه عقب إستقرارها في الحوض [294] وتم إقتطاع حجارة السد من صخور الجبال ونحتت بدقة ووضعت فوق بعضها البعض وإستخدم الجبس لربط الحجارة المنحوتة ببعضها البعض وإستخدام قضبان إسطوانية من النحاس والرصاص يبلغ طول الواحدة منها ستة عشر مترا وقطرها حوالي أربع سنتمرات توضع في ثقوب الحجارة فتصبح كالمسمار فيتم دمجها بصخرة مطابقة لها وذلك ليتمكن من الثبات أمام خطر الزلازل والسيول العنيفة [295] وقد بلغ عدد السدود السبئية قرابة الثمانين سدا صغيرا منها سد في نجرانبحوض يسع مئة مليون غالون من الماء حسب تعليقات المستشرق الإنجليزي جون فيلبي أو عبدالله كما سمى نفسه عندما إدعى إعتناقه للإسلام [296] ويطلق على السد لفظة "عرمن" (العرم) في كل اللهجات الصيهدية [297]ويشار للأرض المزروعة نخلا بلفظة "أنخل" وللأرض بنفس اللفظ المستخدم في العربية المستخدمة حاليا "أرض" ولإضافة أداة التعريف يضاف حرف النون في آخر الكلمة (أرضن) والأرض التي تزرع عنباً بلفظة "أعنب" وعن الأرض الثرية والموفرة بألفاظ من قبيل "أثمر" و"موفرن" [298] لم يكن إيصال المياه إلى الجبال والزراعة عليها أمراً سهلا مما إضطر السبئيين إلى تمهيدها على شكل مدرجات ولا زالت الظاهرة إلى اليوم في اليمن[299] وقد ذكر اليونان ذلك وكيف أن جبال اليمن تبدو كسلالم وهو ليس نتاج الطبيعة بل لإن اليمنيين القدماء أرادوها كذلك لتسهل عليهم الزراعة في المرتفعات [300] وللأسف قليل من هذه المدرجات أو "جروبن" (مفردها جربت أو جربة والجمع في اللغة الصيهدية يكون بإضافة الواو فيقال جروب لجمع جربة) بقي مزروعا إذ أن غالبها تصحر نتيجة الإهمال عبر السنين [301] وقام السبئيون مثل غيرهم من اليمنيين الآخرين ببناء الصهاريج لحفظ المياه وتزويدها بمجاري تحت الأرض تصل لعدة كيلومترات لإيصال المياه للسكن والمزارع ولا زالت الصهاريج تستخدم في أرياف اليمن وبنفس الطريقة القديمة [302] كان في كل مقاطعة أو "هِجّر" مجلس مكون من "ثمينتن" (ثمانية) أعضاء لمناقشة القضايا الزراعية من ضرائب يدفعها المزارعون للحكومة إلى تقديم طلبات بحصص وقروض من خزانة الدولة وغالبا ماتكون في المعبد لإمداد المزارعين أو ملاك الأراضي بصورة أدق [303] وفرضت عقوبات على المزارعين الذين يتركون الأرياف ليعيشوا في المدن وهو مايؤكد قول سترابو بشأن صرامة القوانين الإجتماعية. فكثير من المزارعين كان يترك الأرض ويذهب إلى المدينة خلال أيام القحط أو الإضطرابات وتسميهم نصوص المسند بلفظة "مهجرت" (مهجرة) [304]

[عدل]التجارة


لوحة من المرمر تظهر مشهداً لثلاثة أشخاص أحدهم يحمل آلة موسيقية تشبه العود وفي الأسفل قافلة سبئية على ظهور الجمال
تصف نصوص خط المسند التاجر بلفظة "مكر" [305] والتجار أدنى طبقة حسب السلم الإجتماعي اليمني القديم من الملوك والأقيال رغم أن هولاء الأقيال والملوك كانوا تجاراً كذلك ولم يفهم الباحثون ماإذا كان هناك طبقات بين التجار في المجتمع القديم. كانوا يتاجرون بما تنتجه الأرض من بخور ولبان ومر وكانوا محتكرين لتجارتها في العالم القديم وكانت سبباً أغسطس قيصر لغزو العربية السعيدة بعد عقده "صداقة" حسب مفاهيم الرومان مع الأنباط[306] وهذا ماقاله سترابو، أن الإمبراطور أراد السبئيين أن يصبحوا أصدقاءاً لروما وهي ليست صداقة بالمعنى المعروف بل المقصود منها تبعية وخضوع لشروط الرومان والمتاجرة بالبضائع العربية الجنوبية بأرخص الأسعار[307] لم يتم حلم الرومان وفنى غالب جيش أيليوس غالوس ووضع الرومان باللائمة على العطش وقلة المياه رغم وفرة المياه الناتجة من السدود وعلى دليلهم النبطي. وللباحثين في العصر الحديث عدة إعتراضات سترابو، فسترابوا جغرافي ولكنه سياسي كذلك [308] ويأمل الباحثون إكتشاف كتابات بخط المسند تشير إلى هذه الحملة للوقوف على سبب إخفاقها فالنصوص المكتشفة تمثل جزء اً بسيطا من تاريخ البلاد وعُثر على أغلبه من سياح لا بعثات إسكتشافية منظمة[309] لمعرفة الجانب الآخر من الحكاية خاصة أن الرومان غيروا أسلوبهم في التعامل مع "العربية السعيدة" عقب هذه الحملة وبدأوا بدعم مملكة أكسوم على الضفة المقابلة لليمن بعد حملة رومانية أخرى أخفقت كذلك بقيادة إبن سيبتيموس سيفيروس [310] رغم أنه نجح في ضم في العربية الصخرية (أقصى الشمال الغربي)دومة الجندل تحديدا [311]
كان السبئيون وكل اليمنيين القدماء يتاجرون بما تنتجه أرضهم ويشترونه من الهند وكانت لهم سيطرة على سواحل أفريقيا كونها أحد مصادر اللبان والبخور كذلك وقد ذكر اليونان أن سيطرتهم كانت تمتد حتى تنزانيا [312]وردت في العهد القديم عدة نصوص تلمح إلى قوافل السبئيين وتجارتهم منها أنهم سيأتون بالذهب معظمين لمسيح اليهود المنتظر [313] وهذه النصوص توافق الوارد عنهم في كتب الرومان واليونانيين ماشأنه أنهم تجار بخور وطيب وذهب وأحجار كريمة [314] وعن تواجد سبئي في تيماء وعن سياراتهم (قوافلهم) [315] وهذه النصوص عن تواجد سبئي في شمال غرب الجزيرة العربية تؤيدها نصوص آشورية ولكنها كانت مستعمرات تجارية لا أكثر فكل هذه النصوص تشير أنهم كانوا يتاجرون بالطيب والبخور وكلها مزروعات كانوا يأتون بها من اليمن حيث موطنهم فأرض الحجر وتيماء ليست بأراض زراعية ، فيُحتمل أن ملكة سبأ الوارد ذكرها في العهد القديم والقرآن إن ثبت وجودها والملك سليمان من ناحية أثرية، كانت ملكة على إحدى هذه المستعمرات [316] ويرجح عدد من الناقدين أن القصة مختلقة بالكامل من كتبة التوراة لإيجاد شاهد أجنبي ثري على ثروة سليمان وحكمته وعظمته[317] وقد بلغت مملكة سبأ مبلغا أعظم من أي أثر مكتشف لمملكة قد أقامها العبرانيون أو اليهود ليتعجب أي سبئي من بلاط سليمان أو حاشيته [318] لم يأخذ إدورد جلازر برأي هومل بشأن ملكة سبأ [319] وآمن الأثري الأمريكي الراحل ويندل فيليبسأن التنقيب في مأرب وماحولها سيؤدي للعثور عليها إلا أن مهمته التي قام بها في خمسينات القرن العشرين توقفت بسبب تهديدات بالقتل وعاد فيليبس إلى بلاده وتوفي بعدها بفترة قصيرة وبقيت جمعيته التي أسسها المعروفة بإسم الجمعية الأمريكية لدراسة الإنسان (إنجليزية: The American Foundation For The Study of Man) تؤدي عملها إلى اليوم[320]
وقد أدرك العبرانيون ذلك بوصفهم السبئيين بأنهم أمة بعيدة خلال تهديد يهوه لأهل صور ببيعهم كعبيد إلى السبئيين "الأمة البعيد" وهو مايسنبط أن مراكز السبئيين الرئيسية لم تكن قريبة منهم وماكان القريب منهم إلا فرعاً أو مستعمرة ودلالة أن السبئيين كانوا من شراة العبيد والرقيق [321] وكل هذه نصوص دلالة على تجارة السبئيين وإن كان لا يُنبغي لها أن تؤخذ حرفياً لما يفسدها من التوجهات الدينية والسياسية المختلفة. أشار اليونان إلى تجار السبئيين وأنهم كانوا يتاجرون بالطيب وله نفس اللفظة في نصوص خط المسند [322]والذهب والفضة ويصدرونها لأسواق العراق أو "عبر نهرن" (عبر النهر) كما كان يسميها السبئيين بالإضافة للمر أو "أمرر" في النصوص القديمة والصبر وهذه كلها كانت تنتج في اليمن وشرق أفريقيا [323] أما المسك والعود فقد كان السبئيون وكل العرب الجنوبيين يستوردونه من الهند إذا كان تجار مملكة حضرموت أكثر إتصالا بالهند منهم ولهم سيطرة على ظفار، ولا شك أن السبئيين كانوا يشترونه منهم ومن ثم يتاجرون به والعلاقة الإقتصادية بين الممالك الأربعة في اليمن القديم لاتزال غير واضحة إلا أنه في فترات السلم كان هناك تعاون إقتصادي من نوع ما [324] وقد سار السبئيون وقبلهم المعينيين وفق سياسة توسع تجارية فكانوا يسيطرون على غرب الجزيرة العربية من خلال مستعمرات ومهدوا الطرق للقوافل ووضعوا حراسات على هذه المواضع لحراستها من الأعراب وغالبهم كانوا قطاع طرق ولا شك أن أهل يثرب كانوا إحدى هذه الأغراس التي غرسها السبئيون على الطريق التجارية[325] وهذا للقوافل المتجهة للشام ومن ثم إلى مصر أما للقوافل المتجهة نحو العراق فقد مهدوا الطريق من نجران مرورا بنجد حيث مملكة كندة القديمة لحماية القوافل المتجهة للعراق وفارس [326] كان هناك صناعات مثل الدباغة والخياطة والحدادة والنجارة فالسبئيون كانوا أهل حاضرة وليسوا أعراباً ولكن لاتوجد دلائل أنهم صدروا مصنوعاتهم للخارج بإستثناء الجزيرة العربية حيث ورد في كتب التراث عن جودة السيوف اليمانية وأن بردة النبي محمد ونعاله كانت من اليمن ويُطلق على الذهب لفظة "ذهبن" وعلى الفضة "صرفن" في نصوص خط المسند ورغم كتابات اليونان التي وصفت آنية الأكل والشرب عند اليمنين بأنها ذهب وفضة، الغالب أنها مبالغة منهم فقد أُستخدم الرصاص لصنع الأكواب والصحون ونوع من السيوف كذلك [327] بالإضافة للتجارة والزراعة، فإن موانئ اليمن وبالذات ميناء المخا وعدن كانا من أهم الموانئ في العالم ومصدر دخل مرتفع من الضرائب التي يفرضها السبئيون على السفن وفرصة للتجار للتواصل مع العالم الخارجي وتبادل المنتوجات معهم [328]

[عدل]الفن والعمارة


تمثال من البرونز لإمرأة تحمل بخورا ومشعلا من الزيت في مأرب
كانت المدن في اليمن القديم كبيرة نسبياً مقارنة بغيرها من المستوطنات في شبه الجزيرة العربية وبُني غالبها بشكل مستطيل وتسمى المدينة "هِجَر" وهي أكبر من "قريتن" (القرية) [329] كل المدن كانت مسورة وعليها أربعة أبراج وبابان متقابلان تفتح أبوابها من الفجر وتغلق مع مغيب الشمس مع بعض إستثناءات للعواصم حيث يصل عدد أبواب المدينة إلى ستة أو سبع ويبنى بجانب كل باب برجان حراسة يسهر الجنود على مراقبتها ليلا ونهارا[330]وهذا بالنسبة للأبواب الرئيسية والتي كانت تؤدي إلى ساحة مسورة كذلك بها غرف للجنود ومن ثم باب إضافي يؤدي إلى المدينة[331]
وقد لاحظ الآثريون من فحص لمواقع قديمة أنهم إستخدموا حجارة منحوتة بأشكال مربعة لتبليط المدن وقاموا بتبليط الطرق التي تصل المدن ببعضها البعض منها طريق يصل بعضها لأربعة أو خمسة أميال[332] وكانت الطرق داخل المدن مرصوفة بحجارة منحوتة وضعت فوق بعضها وأُستخدم الجبس لتثبيتها وعُثر على آثار لإستخدام الإسفلت [333] العمارة في اليمن القديم وطراز البناء لايختلف كثيرا عن ماهو ظاهر اليوم في اليمن على الأبنية، هناك إختلاف بلا شك ولكن من فحص المواقع الأثرية ووصوف بعض كتب التراث لمباني وقصور في اليمن، يتضح أن الطراز المعماري اليمني القديم هو نفسه مايُشاهد على أبنية البيوت في صنعاء وقد تعرضت الكثير من المباني الأثرية القديمة كقصر غمدان وقصر ذي يهر وقصر ريدان للهدم والإحراق في العصور الإسلامية إما لبناء أبنية جديدة أو لهدف التخريب كما فعل القرامطة بقصر ذي يهر القديم [334] كان غالب البيوت يتآلف من ثلاثة إلى خمسة طوابق كما إستنبط علماء الآثار من دراستهم لعمق الحفر التي بنيت عليها البيوت [335] ويوجد جهة أو باحة خلفية لكل بيت تسميها نصوص خط المسند حسب إختلاف اللهجات، فالسبئيون سموها "خلفتن" (خلفية) ووجد بها آثار لزراعة ويطلق على النوافذ لفظة "مصبح" كونها الجهة التي يدخل منها النور أما الزجاج الملون الذي يوضع مكان بعض النوافذ فسماه السبئيون "مولج" ولازال اليمنيون يستخدمونه ويسمونه "التخريم" وللسلالم التي تقود للطبقات العليا لفظة "علوه" في نصوص خط المسند [336] أغلب البيوت بُني بإستخدام الحجارة بعد نحتها ويتم تثبيتها بإستخدام الجبس ومادة "الزلت" ويُعتقد أنها الزفت والرصاص ويشار للسقف بلفظة "مسقف" عند السبئيين وتُغطى الجدران الداخلية للمنازل بأخشاب عليها رسومات بدلالة دينية كصور للوعول أو الثيران وتُسمى الزخرفة والتزيين "موسم" بلغة السبئيين [337] وعثر الآثريون على آثار لزيوت طُليت فجوات الحجارة لتقليل الرطوبة وتسرب الماء لداخل البيت [338] وكان الملوك والطبقات الثرية والتجار يكسون أعمدة بيوتهم وأبوابهم ذهبا وفضة [339] التماثيل والمنحوتات السبئية تختلف عن الحميرية أو القتبانية إلى حد ما. بشكل عام الفن اليمني القديم كله متشابه خلا بعض الإختلافات في الأساليب. وقد كتب عدد من المستشرقين أن الفنون كانت متأثرة باليونان ومرد ذلك فحصهم لعدد من التماثيل المكتشفة أغلبها حميري وقتباني وهي تشبه التماثيل اليونانية كثيرا ولكن المكتشف قليل ولايفيد بتكوين صورة مكتملة عن الفنون اليمنية القديمة، فبعضها يشبه اليونانيين بالفعل ولكن غالبه إنعكاس لثقافتهم [340] وقد كان الفن يخدم أغراضاً عديدة، منها تمثيل للملوك وغالبها يوجد قرب المعابد وصور لكهنة وفلاحين ومقاتلين وراقصات كذلك وهي لها دلالات مهمة على واقع الحياة والثقافة في ذلك المجتمع القديم ومزيدا من الإكتشافات سيساعد على رسم صورة صحيحة ودقيقة عنهم، فاليمن لم يحظى بنفس القدر من الأبحاث كالذي حظت به بلاد أخرى ومعظم الأبحاث كانت فردية ومن قبل سياح [341]

صنعاء القديمة، من فحص المواقع الأثارية ووصوف مؤلف الإكليل لمباني كانت لازالت باقية على أيامه يتضح أن الطراز المعماري اليمني لم يتغير كثيرا عما كان عليه أيام التاريخ القديم وعدد من البيوت بصنعاء يحمل جدراناً عليها كتابات بخط المسند [342]

[عدل]اللغة والخط

Crystal Clear app kdict.png مقالات تفصيلية :عربية جنوبية قديمة و لغة سبئية

كتابة سبئية
كان السبئيون يتحدثون باللغة السبئية وهي فرع أو لهجة من العربية الجنوبية القديمة وهي لغة سامية. الأبحاث القديمة في القرن التاسع عشر جعلتها من ضمن اللغات السامية الجنوبية [343] إلا أن أبحاثاً حديثة تجعلها فرعا ثالثا منالسامية الوسطى[344] والمسألة لا زالت موضع نقاش بين المختصين فالتصنيفات الداخلية للغات السامية صعبة عموما.
المميز في اللغة العربية الجنوبية القديمة هو تقديمها لأداة التعريف "نون" أو "ناي" في آخر الكلمة هو مالم يوجد في أي لغة سامية أخرى [345] أما مايميز اللهجة السبئية عن باقي اللهجات العربية الجنوبية القديمة هو إستخدامها للحرف "هاء" أو "هوي" كأفعال سببية فيقول السبئيون "هحدث" بمعنى "سأفعل" بينما العرب الجنوبيين الآخرين يستعملون الحرف سين [346]
أما للتدوين فقد كان السبئيون يخلدون ذكراهم بكتابة شواهد بإستخدام خط المسند أو "متسندن ـ م ت س ن د ن " كما كانوا يطلقون عليها. وهي كتابات تتعلق بتقديم القرابين أو لتخليد إنتصار وبناء منزل وماشابهها من الأنشطة. أما للمعاملات اليومية فقد إستخدموا الزبور أو "زبرن" [347] الأبجدية العربية الجنوبية القديمة تتكون من تسعة وعشرين حرف ودونت في أوائل الألفية الأولى وهو مايجعلها من أقدم الأبجديات في العالم وعدّها اللغويون أبجدية شقيقة للفينيقية ولم تُقتبس أو تتطور عنها وهي فرع من أبجدية سينائية أولية حسب بعض النظريات [

[عدل]


تعليقات

المشاركات الشائعة